كانت أول الكتب التي تابعت حلقاتها بشغف صبياني تروي مغامرات شائقة للص الظريف أرسين لوبين؛ سلسلة بيروتية من تعريب عمر عبد العزيز أمين. لقد كانت سببا مباشرا لوقوعي في غرام اللغة العربية بتعبيرات المعرّب الآسرة من نوع «ثم دلف إلى غرفة أشعل فيها لفافة تبغ ما لبثت أن انعقدت حلقاتها في سماء الغرفة وما إن تكاثف الدخان حتى قفز في خفة الفهد من النافذة المشرّعة».. ولم تكن سلسلة طرزان البيروتية أيضا - التي «التهمت» منها ثمانية وخمسون كتابا - بأقل تأثيرا بتعبيرات مثل «فعاجله بضربة قاضية بعضلاته الفولاذية المفتولة».. ولم تكن أهمية تلك القراءات لغوية فحسب لغر مثلي في الثالثة عشرة، بل وفرّت لي أيضا بتعبيراتها المزخرفة مرتعا خصبا لإطلاق الخيال. بعد ذلك بعامين وقعت على ترجمة لكتاب «من بيروت ثالثا» المؤرخ والناقد السينمائي الفرنسي جورج سادول بعنوان: «قصة السينما في العالم». وهو الكتاب الذي دفعني بقوة في اتجاه احتراف النقد السينمائي. بعد ذلك بعام، وقبل التقدم للدراسة في معهد السينما بالقاهرة، قرأت بنهم كتاب «السينما والمسرح وأمراض النفس» للدكتور أنيس فهمي إقلاديوس (من منشورات «دار المعارف» المصرية). وإذا كان كتاب سادول يروي تاريخا مثيرا لفن مهم، فإن كتاب إقلاديوس هو الذي ساقني إلى اعتبار السينما فنا عميقا مركبا يحتمل التحليل والتفسير والكتابة الجادة. ثم جاءت سلسلة «الهيئة العامة للكتاب» في مصر التي تعلمت من خلالها الكثير عن التقنيات والمدارس السينمائية في العالم. في مستهل أعوامي الجامعية كانت قصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب» (من منشورات «فابر أند فابر» الإنجليزية) التي دشّن بها القرن العشرين في عام 1922 هي التي قادتني إلى اكتشاف العالم الحديث من مرآة الشعر الحديث. وعلى الفور تجرأت فترجمتها إلى العربية وقدمتها إلى بهاء طاهر في «البرنامج الثاني» (القناة الثقافية الأولى في الإذاعة المصرية) عوضا عن ترجمة يوسف الخال الغريبة (التي أزعم أن أحدا لم يفهم منها شيئا، ربما باستثناء قراء مجلة «شعر»!). بعدها تعرّفت على إليوت الناقد من خلال كتابه «مقالات مختارة» الذي دلني على منهج إليوت النقدي؛ المنهج الموضوعي، الذي صار منذ أولى كتاباتي منهجي في النقد. منذ قرأت مقدمته لمسرحيته «الميجور باربارا»، (وهي واحدة من مقدماته التي تماثل في أطوالها أطوال مسرحياته ذاتها!) قدم لي جورج برنارد شو فهما بدا جديدا للاشتراكية، وهي الكلمة التي طبعت الفكر والإعلام السياسي خلال سنواتي الجامعية في مصر. ربما كانت اشتراكية شو الفابية تناسب رؤيتي المثالية للعالم آنذاك. لقد نهلت من نبع صوفية إليوت واشتراكية شو ووجد كل منهما في نفسي متسعا بعد أن أخذ نصيبه من التماهي. لم يتوقف تأثري بالكتب في أي وقت منذ تلك الأعوام الفتية وحتى عندما تصورت بغرور خلال أعوامي الوسطى «إنني رأيت كل شيء وعرفت كل شيء!». فعندما قرأت كتاب كارين أرمسترونغ «محمد نبي لزماننا» قبل خمسة أعوام أدركت أن هناك تعريفا جديدا للبحث الموضوعي أرجو أن أتبعه ذات يوم. فلكي تصل أرمسترونغ إلى موقع محايد لدراسة هذه الشخصية التاريخية المثيرة للجدل في العالم الغربي، تخلت الباحثة بشجاعة عن أي أحكام مسبقة رائجة ثم قامت بوضع الشخصية في إطارها الزمني والجغرافي والثقافي والاجتماعي والتاريخي لكي تكون قادرة بأدواتها البحثية على تفهم بواعث أفعالها في تلك البيئة العربية أولا ثم تقدير إنجازاتها بغرض إعادة تقييم دورها التاريخي من منظور معاصر.. هذا منهج بحثي ندر نظيره في كتابات غربية مغلّفة بأحكام مسبقة عن نفس الشخصية التاريخية. ولا تزال الكتب تعلمنا. * مخرج وناقد سينمائي مصري