×
محافظة المنطقة الشرقية

مقتل خمسة عسكريين تونسيين في هجوم إرهابي

صورة الخبر

رام الله: يوسف الشايب المتجول في معرض الفنان حسني رضوان، الذي يحمل اسم «شظايا»، يقف طويلاً أمام كل لوحة.. يتمسمر، يفكر، يعدل نظارتيه أكثر من مرة إن كان يضع نظارتين، أو يغير زوايا النظر ما بين يمنى ويسرى، يتراجع إلى الوراء قليلاً، ويقترب أكثر أحيانا، لعله يذهب بعيدا في تفاصيل تشظي رضوان، الذي لا يمكن أمام إبداعاته المتتالية منذ سنوات أو عقود، إلا التأمل، بل والمزيد من التأمل في مواجهة لوحات لا تستعصي على التأويل، بقدر ما تحمل تأويلات عدة كما هو حال الأعمال الإبداعية الحقيقية، التي تقول كل شيء ولا تقول شيئًا في آنٍ، وكأنها ترمي بالكرة في أحضان حراس المرمى الجيدين من العابرين والمهتمين بتفاصيل المعرض في غاليري الزاوية بمدينة رام الله. ما بين «البورتريهات» البعيدة عن المعنى الكلاسيكي للبورتريه، واللوحات الصاعدة إلى السماء، والهابطة إلى ما تحت قاع البحر، ثمة حكايات خلف الشخصيات ضبابية الملامح في لوحات رضوان التي إذا ما جمعتها في عينيك، وألقيت بها مجددًا على الأرض بألوانك الخاصة، تتخلص من «شظايا» الفنان، باتجاه حالة من التكامل الوجداني غير المسبوق، في زمن لم يعد للوحة بشكلها التقليدي قيمة تذكر، مع أنها لا تزال من أساسيات الفن الحديث، وإن اختلفت الآراء إزاء دورها المحوري الآن في الفنون البصرية في الألفية الثالثة. في اللوحة الأبرز، ربما، يتراءى لي تكوين امرأة بتفاصيل جسدية فاتنة، ووجه بلا ملامح، غابت ملامحه في زحام الألوان وقرقعة ضربات فرشاة الفنان.. تجلس المرأة (التي قد لا يراها آخرون امرأة)، على كرسي يبدو هشًا عن قرب، ومتماسكًا إذا ما عدت إلى وراء بضعة أمتار، تراقب المجهول المحمر، وتستعيد بوجهين أو يزيد، ذكريات ما، هي ليست بالتأكيد كذكريات كل واحد منا، ولكنها تحيله إليها قصرًا، في استرجاع لزمن موجع أو مفرح، أو كليهما معًا، أو رحلة ما جميلة أو قبيحة.. هي حالة «السرحان» في اللاشيء ربما، أو محاولة تبدو يائسة لاستشراف مستقبل غامض كغموض يومياتنا في فلسطين. وفي لوحة أخرى، تبدو الأجساد أو أنصاف الأجساد أو ثلثاها أو ثلاثة أرباعها كجزء من حكاية أسطورية، أو متخيل سينمائي يحمل زرقة «أفاتار» ورفاقه، بعضهم ينظر إلى منزل كان له، أو لا يزال، أو يمني النفس بالعودة إليه، وبعضهم يدير وجهه إلى الجهة الأخرى وكأنه الجدار الخانق، فيما يفتعل آخرون حالة تبدو وكأنها، على غير الواقع، نوع من اللاإكتراث. أما اللوحة المزهوة بالصفار، وبالألوان الزاهية، وبينها ألوان العلم الفلسطيني، وما يشبه الكوفية أسفل وجه بين اثنين متعاكسين شكلاها، وكأنها بطلان لراوية خطها رضوان بالألوان ولم يرسمها بالكلمات، فتحمل فيما تحمل من تأويلات، حكاية تحولات الفلسطيني وقضيته بين زمنين أو أكثر، وانعكاسات المراحل السياسية المتعاقبة، ولربما في العقدين الأخيرين عليه، ما بين مقاوم ومسالم، أو مقاوم ومقاوم بشكل آخر، أو مستسلم «منبطح» وأكثر انبطاحًا واستسلاما، فيما يمكن إسقاطها على واقع المثقف الفلسطيني في زمن العولمة، وتسليع المنتج الإبداعي عمومًا، لكنها في النهاية تعبير حالة «انفصام» بامتياز. وفي اللوحة التي يمكن أن نسميها «طاولة الشاي»، هناك حكايات العابرين في المقاهي والمنافي حين يلتقون صدفة، ويسردون روايات البرتقال التي تكاد رائحتها العبقة تخبو أمام رائحة المعسل والتمباك المعتق، أو لعلها حكايات الأصدقاء في مقهى برام الله، تبدو كنميمة أحيانا، أو «فضفضة» أحيانا أخرى، أو ليست إلا تعبيرًا عن حميمية ما. ولا يمكن المرور من بين اللوحات المتنوعة على أهميتها، عن لوحة السيدة الجالسة على السلم (الدرج)، وإن كانت رسمت بخطوط بسيطة تبدو مقصودة، ففيها الكثير من الانتظار الذي بات هاجسنا اليومي في فلسطين، وقد تعكس أيضا حالة إنسانية في زمن «الديجيتال» و«التتش». في «شظايا» حسني رضوان، تتحول الألوان إلى حكايات وحيوات، وكأنها بالفعل كما قال أحد أصدقاء رضوان على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»: وصارت الألوان أرواحًا، تسكن أجسادًا ميتة.. ورق على قطعة خشب تحولها إلى كائن حي مثلنا.. روح وجسد يستمد منا صفتنا للحياة، ونستمد منه تلك الطاقة التي تمكننا من الحياة.. يا لتلك الألوان المخيفة بروعتها، كيف لها أن تحمل هذا الكم الهائل من الطاقة، التي عجز البشر عن حملها، ربما لأنها اجتمعت مع بعضها بألفة وحب، عجز البشر عن الإتيان بمثله. علينا أن نكون ممتنين إذن، للفنان حسني رضوان، الذي مزجها معًا بدقة وحرفية نبعت من طاقة الحب والمشاعر النبيلة بداخله، فصورت لما الفن بأجمل وأبهى صورة.