تكشّفت خيوط التدافع الديني والسياسي في المشرق العربي، وغدا بسطاء الناس يدركون خلفيات الصراع في المنطقة، بعد عقود من الزمن ظلت فيها النوايا مستترة، والتحركات غامضة، بما يكفي للتدليس على عقول كبيرة مراقبة. لا تزال قضية فلسطين، المقدس الباقي لدى كل الأطراف، تُتخذ مطية لبلوغ أهداف تخدم هذا المحور أو ذاك، أو قُلْ أصبحت فلسطين ورقة التوت التي تستر كل المشاريع المغرضة في المنطقة، ولا يستطيع أحد المساس بهذه الورقة أو إسقاطها، نظراً لمكانة فلسطين في وجدان الأمة من ناحية، وخوفاً من تهمة الخيانة من ناحية أخرى. لكن، وبعد كل ما جرى ويجري، أصبح لزاماً علينا أن نقول: لندع هذه القضية المقدسة إلى حين، ولنلتفت إلى ما وراء الأكمة من مخاطر داخلية محدقة، لا تقلّ خطراً عن نظيراتها الخارجية. مارس محور الممانعة والمقاومة ضغطاً ممنهجاً على العالم العربي، وتبنّى خطاباً مغالطاً فترة طويلة من الزمن، مستفيداً من مخزون شيعي تاريخي في تسويق مقولات مذهبية لا تستند إلى نصوص قوية تؤيدها، ومتّخذاً من التقية، التي غدت نمطاً في التفكير وسمة في السلوك، وسيلة لتحقيق حلم السيطرة على بلدان المشرق أولاً وبلدان المغرب لاحقاً. لا أظنني بحاجة للتدليل على حقيقة هذا المشهد من خلال كل ما نراه ونسمعه في بلدان كالعراق وسورية واليمن ولبنان، فالأدلة أكثر من أن تحصى. لكن ما يهمني في هذه المقالة هو تنبيه قادة حزب الله اللبناني إلى مآلات الأمور إن هم أصروا على المضي قدماً في هذا المشروع المخاصم لعموم الأمة، كما أودّ لفت انتباههم إلى مخارج النجاة إن هم أحبوا البقاء في حضن الأمة، ونأوا بأنفسهم عن رحى أعاصير تترى لن تبقي لهم ولن تذر. كل العالم الإسلامي استبشر خيراً بانتصارات الحزب المتتالية في محاربة العدو الإسرائيلي، وإن كان حزب الله قد فوت الفرصة عليه في استثمار تلك النجاحات داخل محيطه الشعبي لينال مزيداً من الدعم والسند، بل فضّل أن يجيِّر انتصاراته للدعاية المذهبية، ولتقوية نفوذه ونفوذ المحور الذي ينتمي إليه، متجاهلاً مشاعر الشعوب المعجبة، التي شاركته الفرحة، وغافلاً عن أهمية أن يبادلها المشاعر وهو منتش بالانتصار، وآثر دوماً أن يستأثر بإنجازاته ويستثمرها للمزيد من التمدد والاستعلاء. وهذا خطأ استراتيجي تعامى عنه قادة الحزب في أوج زهوهم، حين كانت عيونهم كالطفل تحدق إلى الفقيه الولي، الذي والوه من أول ما استهل الحزب مولوداً يحمل شعار الثورة الإسلامية في لبنان، ليحورها بعد ذلك إلى المقاومة الإسلامية في لبنان، بل زاد ذلك الولاء المطلق تعصباً ورثَهُ من أدبيات شيعية مشحونة بالرغبة في الانتقام. أن يُحاط حزب الله بشعوب سنّية من كل الجهات فذلك قدره، لكن أن تلتفّ على خاصرته جماعات جهادية مسلحة، خَبِرَ بأسها في سورية والعراق، لا تكنّ له الود وتتربص به الدوائر، فذلك حصاد أعماله وتراكمات استعلائه. ولا أظن الحزب قادراً على فكاك نفسه من هذا الأسر مهما أوتي من قوة وبأس، ومهما طال بقتاله الزمن. بل إن الجموع التي يقودها إلى هذه المحرقة لن يطول صبرها، مهما تفنّن في أساليب الإقناع واحتج، ما يعني أننا أمام نهاية مأسوية لظاهرة جهادية لافتة في تاريخنا المعاصر، استحوذت على المشهد السياسي والإعلامي ردحاً من الزمن. إن القلوب المؤمنة بالوحدة الإسلامية، والوجلة على دماء المسلمين، الذين هم أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم - تأبى مصيراً كهذا لحزب الله، ولن ترضى قلوبنا لمجاهدين أعزوا الأمة في معارك مشهودة أن تكسر شوكتهم وتذل قامتهم أمام الصهاينة. فما الحل الأمثل الذي نقترحه على قادة الحزب ليأمنوا به بين الناس، ويبقوا سلاحهم ذخراً للأمة؟ أول ما يتعين على الحزب فعله فك ارتباطه بولاية الفقيه، التي جرّته إلى مآزق قاتلة، ليصبح بذلك الانفكاك حراً في قراراته وخياراته، فينقذ نفسه من الأفول إن هي الجمهورية الإيرانية أفلت. وسنّة حياة الأمم وموتها كحياة البشر وموتهم، لا تبديل لخلق الله. وثاني ما يجب على الحزب فعله المصالحة مع محيطه السني، والرضا بحجمه القدري بين جموع هذه الأمة، والتخلص من نزعته الساسانية التي تطبع بها من إدمانه الولاء لإيران، ولن يتأتى له ذلك إلا بإخلاصه لأمته واحترام عقيدتها والتماهي في هويتها. وثالثة الأثافي للخروج بولادة سليمة من هذا المخاض العسير، أن يقصر الحزب مشروعه على مقاومة الاحتلال الصهيوني، من دون أن يستأثر بمشروع المقاومة دون غيره، أو يتبنى تحرير فلسطين وحده، لأن ذلك كله يفوق قدراته، ويؤخر إنجاز الانتصار. بهذا يأمن حزب الله على نفسه ومستقبله، وبهذا تحقن دماء الأمة النازفة، وتندمل جراحاتها المؤلمة، آملاً أن تجد رؤاي المشفقة هذه آذاناً صاغية وقلوباً واعية.