×
محافظة المنطقة الشرقية

عام / تعليم النماص يطلق مبادرة وطنية بعنوان "وطني حزم وريادة"

صورة الخبر

لقّب زين الدين الآمدي ب"المُعَبِّر" لشهرته في تعبير الأحلام، وعلمه بأسرارها، وتأويلها، فكان "آية عظيمة في تعبير الرؤيا"، وقد دسّ الأحلام مرفقة بتفسيراتها في كتاب بعنوان "جواهر التبصير في علم التعبير". وإلى ذلك كان ضليعا في الفقه، وانتفع من علمه كثيرون، وفاق معاصريه بإتقانه كثيرا من لغات عصره، ومع عماه كان ورّاقا يتجر بالكتب، ويؤلّفها، ويعرف أصنافها، وخطوطها، وأثمانها، وكان "لا يفارق الإشغال والاشتغال في غالب أوقاته". تداولت بغداد أخبار الآمدي الضرير في العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري، وبعد أن قصده حفيد هولاكو في محرابه العلمي في الجامعة المستنصرية، فأمضي العقدين الأخيرين من حياته نجما ساطعا في عاصمة دار الإسلام. على أن اتجاره بالكتب، واشتغاله ورّاقا، وانغماسه في تأويل الأحلام، وانصرافه إلى التأليف، أثارت الاهتمام به، وجعلته يرتفع على طبقته من شيوخ بغداد، وانتزع اعترافا منقطع النظير فيها، وقد نسبت له "مزايا عجيبة" منها سبقه في اكتشاف طريقة يتمكّن بها العميان من القراءة. قال الزركلي بأن الآمدي "أول من صنع الحروف البارزة" وذلك الابتكار الذي تمكّن العميان به من فكّ ألغاز الكتب ظهر قهرا لعاهة العمى التي سعى للتغلّب عليها، وقد أسهب "الصفدي" في بيان ذلك "كان يتجر في الكتب. وله كتب كثيرة جدا، وكان إذا طُلب منه كتاب، وكان يعلم أنه عنده، نهض إلى خزانة كتبه، واستخرجه من بينها كأنّه قد وضعه لساعته، وإن كان الكتاب عدّة مجلّدات، وطُلب منه الأول مثلا أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، أخرجه بعينه، وأتى به. وكان يمسّ الكتاب أولا، ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال. وإذا أمرّ يده على الصفحة قال عدد أسطر هذه الصحيفة كذا وكذا سطرا، وفيها بالقلم الغليظ كذا، وهذا الموضع كُتب به في الوجهة وفيها بالحمرة هذا وهذا لمواضع كتبت فيها بالحمرة. وإن اتفق أنها كتبت بخطّين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هنا إلى هنا، من غير إخلال بشيء مما يمتحن به. ويعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنه كان إذا اشترى كتابا بشيء معلوم أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة، وصنعها حرفا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الجمل، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبّد، فإذا شذّ عن ذهنه كمية ثمن كتاب ما من كتبه مسّ الموضع الذي علّمه في ذلك الكتاب بيده، فيعرف ثمنه من تنبيت العدد الملصق فيه". حينما تدرس حالة الآمدي ضريرا في ضوء حالته فقيها ولغويا ومعبّرا ووراقا لا يصبح العمى عائقا، إنما حافزا. يسّر الآمدي على نفسه الاتجار بالكتب بابتكار الكتابة الناتئة التي تقرأ باللمس، وهي، بشيء من الاختلاف، الطريقة التي توصل إليها "بريل" في منتصف القرن التاسع عشر. وفي ذلك استفاد مما عرف بحساب الجمل طبقا للقيمة العددية لحروف العربية، وهو حساب شاع في القرون الإسلامية الوسيطة. ابتكر الآمدي طريقة تناسبه للتعرّف إلى قيم الحروف بلمس الناتئ منها، وتلك طريقة لم تكن معروفة قبله، وما شاعت بعده، فكأنها اقتصرت عليه وحده، ولكنها مكّنته من ممارسة الاتجار بالكتب. ليس من المفيد، على مستوى المعرفة، اعتبار الآمدي مكتشفا فريدا من نوعه، إنما فرض العمى عليه حيلة تغلّب بها على العتمة النازلة به، فأخذ بها تسهيلا لعمله في الاتجار بالكتب؛ فالابتكار يقوم على فرضية مقصودة تقع البرهنة عليها بالتجربة، جاء ابتكاره لإشباع حاجة شخصية، وكان ينبغي الأخذ به، وتطويره، ليسعف المكفوفين في حياتهم العملية، على أن أمرا مثل هذا لم يرد ذكر له في المصادر فيما نعلم. ربطت الآمدي بالسلطان المغولي "غازان بن أرغون" حفيد هولاكو، علاقة متينة، واستمرت إلى أن توفي السلطان. حدث اللقاء الأول بينهما في المدرسة المستنصرية على كتف دجلة برصافة بغداد، وعلى مرمى حجر مما كانت دارا للخلافة، فلما دخل غازان بغداد طلب الاجتماع إلى أعيانها في ذلك الصرح الذي أطبقت شهرته دار الإسلام، فقد مضى على تأسيس المدرسة نحو من ستين عاما، وفيها كانت تدرس علوم الدنيا، وعلوم الدين، وسمح للمكفوفين بالتدريس والدراسة فيها، ومنهم الآمدي. جرى اللقاء بين فقيه كفيف مسنّ ضليع بالدين واللغة وتعبير الرؤيا، وسلطان في الخامسة والعشرين من عمره، لكنه فطن وعادل ومحبّ للحكمة، وعارف بلغات وقته، ولم يمض إلا عام واحد على اعتناقه الإسلام، فغمرته غلواء الدين الجديد، وجعل منه دين الدولة التي آلت إليه، ثم انتحل اسما جديدا يوافق معتقده الديني، فصار يعرف بمحمود غازان. سأل عن أعيان دار السلام، وعرف مقام الآمدي فيها، وقصد اللقاء به في المكان الذي يجهر فيه بآرائه الفقهية، فقال "إذا جئت غدا المدرسة المستنصرية اجتمع به، فلما أتى السلطان غازان المستنصرية، احتفل الناس له واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي، لتلقّي السلطان. فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحدا بعد واحد، ويسلّم كل منهم على الشيخ زين الدين، ويوهمه الذين معه أنه هو السلطان، امتحانا له، فجعل الناس، كلما قدم أمير، يزهزهون له، ويعظّمونه، ويأتون به إلى الشيخ زين الدين، ليسلّم عليه، والشيخ يردّ السلام على كلّ من أُتي به إليه من غير تحرّكٍ له، ولا احتفال به، حتى جاء السلطان غازان في دون مَنْ تقدّمه من الأمراء في الحفل، وسلّم على الشيخ، وصافحه. فحين وضع يده في يده، نهض له قائما، وقبّل يده، وأعظم ملتقاه، والاحتفال به، وأعظم الدعاء له باللسان المُغلي، ثم بالتركي، ثم بالفارسي، ثم بالرومي، ثم بالعربي، ورفع به صوته، إعلاما للناس". كان موقفا مشهودا جرت وقائعه تحت أبصار أعيان بغداد دون بصر الآمدي الذي كان بؤرة الحدث، أن يخصّ سلطان غريبٌ فقيها، ويتعمّد اختبار عماه وفطنته في وقت واحد، فيدفع بأتباعه واحدا بعد الآخر ليعرف مقام الرجل الذي قصده، فأنكر الآمدي عليهم جميعا السلطنة، والجاه، وحينما صافحته يد غازان عرفه، فما كان منه إلا النهوض، ومخاطبته بما يعرف من اللغات، فبادله السلطان الاهتمام، لأنه كان يجيد، فضلا عن المغولية، وهي لغته الأم، كلا من الصينية، واللاتينية، والعربية، والفارسية، والهندية، والتبتية، وغمرته الدهشة، فقد قوبل بما لا يتوقّع من ضرير احتجزته عاهته في قلب بغداد، وقابله بما يستحق "عجب السلطان غازان من فطنته وذكائه وحدة ذهنه ومعرفته مع ضرره" فكان أن "خلع عليه في الحال، ووهبه مالا، ورسم له بمرتب يجري عليه في كل شهر ثلاثمائة درهم، وحظي عنده، وعند أمرائه، ووزرائه، وخواتينه، كثيرا". من المفهوم أن يحظى الآمدي باهتمام السلطان، فيُفتن به، كونه تبوّأ مقاما رفيعا في الفقه واللغة، ولكن من الغريب أن يحظى بمقام رفيع عند خواتينه، أي نسائه شريفات النسب، ورفيعات الأصل، على أنه كفيف، وعارف بتأويل الأحلام، ويحسن لغة القوم، فانتقلت علاقته بالمغول من علاقة رجل برجال إلى علاقة رجل بنساء، وبذلك انفتحت أمامه الأبواب كلها. ما الذي شغل الآمدي غير الفقه واللغة والاتجار بالكتب؟ إنه تعبير الرؤيا، الذي يحتمل أنه لاقى قبولا من خواتين السلطان اللواتي يحلمن بالمغولية، وهن بحاجة إلى مفسّر أحلام يعرف تلك اللغة، فهو مؤوّل أعمى، لا يرى سوى الأحلام التي تروى له، فيفسرها لسيدات القصر المغوليات، ويدوّنها في مخطوط ينمو بين يديه بالإملاء، فيستنبط مما يسمعه ويؤوّله علما. لم يكتف الآمدي بتأويل أحلام الآخرين، إنما كان يفسر أحلامه، وشغفه بالأحلام جعله عابرا للحدود بين اليقظة والمنام، فما يفعله نائما يمضي معه يقظا، ومن ذلك ما نسب إليه من واقعة مشهورة "رأيت في المنام كأن شخصا أطعمني دجاجة مطبوخة، فأكلت منها، ثم استيقظت وبقيّتها في يدي". لا غرابة أن يحلم بدجاجة مطبوخة تسدّ جوعه، لكن مصدر الغرابة يأتي حينما يستيقظ من نومه، ويجد بقيّتها في يده، فذلك ينقل الخبر من رتبة المعقولية إلى رتبة العجائبية، لكن الآمدي لا يذهب بعيدا في تأويل أحلامه إنما يأخذ بمبدأ المطابقة بين وقائع الأحلام وأحداث الواقع، وإليكم الدليل: سرقت من بيته نصفيّة حسنة أهداها له بعض أصحابه، فغمّ لذلك، فكيف تجرأ لصّ على اقتحام بيته، وسرقة ما عزّ عليه، فشغل بالأمر، فتراءى له شيخه عبد الصمد بن أبي الجيش في المنام، وكان معروفا بالورع والزهد، لكنه توفّي منذ زمن، وأنبأه بأن فلانا هو الذي سرق النصفية، وإنه أودعها بيت فلان، وأمره بأن يذهب ويستعيد النصفية من بيت الأخير. لم يشكّ الآمدي في مضمون الرؤيا، فما دام شيخه الصدوق قد أنبأه بذلك، فلا بد أن يصدق مؤدّى قوله، فتوجّه من ساعته إلى بيت الرجل الذي أخفيت النصفية فيه، فدقّ بابه، وطلب أن يعطيه النصفية التي أودعها لديه فلان الفلاني، فأخرجها وسلّمها له، وعاد إلى بيته، وقد استعاد ما سُرق منه. إن كفّ الآمدي في مقتبل عمره، فما رأى سلطان المغول، ولا نساءه، ولا رأى كتبه التي كان يتجر بها، ولا رأى حلقات العلم التي التفت به حوله في المستنصرية، وما رأى دجلة، ولا دار السلام، إنما رأى أشباحا بالمشاكلة. رحمه الله من معبّر أحلام لم يشهد إلا خيالات الآخرين!