بسبب الصين ومصرفها الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية تقف الولايات المتحدة وحيدة في مواجهة العالم، ويوما بعد آخر تزداد العزلة الأمريكية في مواجهة الجميع، بعد أن تركها حلفاؤها قبل الخصوم وانضموا إلى المصرف الصيني. وبصرف النظر عمن كان أول المنضمين أو آخرهم إلى المصرف الجديد، فإن السلوك الأمريكي في التعامل مع المصرف وأعضائه يشهد انتقادات دولية حادة، جعلت بعض الاقتصاديين يصفون الموضوع بأنه يتحول تدريجيا بالنسبة لإدارة الرئيس أوباما من قلق إلى صداع مزمن قد تنجم عنه في نهاية المطاف أزمة قلبية لواشنطن. وآخر الانتقادات الموجهة للإدارة الأمريكية، بشأن طريقة تعاملها مع التحدي الناجم عن إنشاء المصرف الجديد، جاء من اقتصاديين بريطانيين مقربين للولايات المتحدة. الدكتور فيل بيري اقتصادي بريطاني عمل مستشارا في البنك الدولي لسنوات، كما سبق له تولى مسؤوليات عدة في اللجنة الاستشارية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال سنوات ولاية الرئيس بوش الابن، ويعتبر الدكتور فيل أن طريقة تعامل إدارة أوباما مع القضية منذ البداية، يشير إلى التخبط وغياب الرؤية. وأضاف بيري لـ "الاقتصادية"، أنه عندما طرح الرئيس الصيني شي جين بينج فكرة المصرف في خطاب له عام 2013، لم يتنبه أحد في الإدارة الأمريكية لخطورة الفكرة، وتعامل الرئيس ومستشاريه معها باستهتار، لكن عندما أظهرت بكين جدية بشأن الأمر، وانضم إليها حلفاء واشنطن انتاب الأمريكيين الفزع، والمشكلة الحقيقية أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئا عمليا لوقف المشروع، وإنما أخذت تصرخ وتنتقد حلفاءها الآخذين في الانضمام للمصرف، وكان على واشنطن أن تضخ سريعا عدة مليارات في الاقتصادات الآسيوية، لتطرح نفسها بديلا عمليا للصينيين، لكن إدارة أوباما لم تقم بذلك. وإذا كانت واشنطن ينتابها القلق من أن يصبح المصرف الجديد، بديلا للبنك الدولي الذي تهيمن عليه بما تمتلكه فيه من قوة تصويتية تبلغ نحو 17 في المائة، فإن للقلق أبعاداً أخرى، بعضها يتعلق بأن يمثل المصرف بداية لهزة في مكانة ووضع أمريكا وهيمنتها على السياسات المالية عالميا، ليسفر الأمر في نهاية المطاف عن إطاحة تامة بهذه المكانة المميزة، إضافة إلى تخوفات تتعلق بمستقبل آسيا الاقتصادي وإمكانية أن يعني نجاح المصرف وازدهاره استبعادا للشركات الأمريكية من الأسواق الآسيوية، وتحديدا المساهمة في بناء أو تجديد بنيتها الأساسية. وحول تأثير المصرف الآسيوي في هيمنة واشنطن وتحكمها في السياسات المالية العالمية، تقول لـ "الاقتصادية" الدكتورة جيما لير مساعدة المدير التنفيذي لاتحاد المصارف البريطانية، إن المصرف المقترح رأسماله لا يتجاوز 50 مليار دولار، وهذا مبلغ زهيد بالنسبة للاحتياجات الآسيوية سواء اقتصاديا أو في مجال البنية التحتية، بل لا يتجاوز نصف رأس المال المقترح للمصرف الذي ترغب مجموعة بريكس في إنشائه، لكن مخاوف أمريكا تأتي من أن يؤسس المصرف لظاهرة مالية دولية جديدة، قائمة على وجود بدائل قوية وفعالة للهيمنة الأمريكية المفروضة نتيجة قوة الدولار على السياسات المالية العالمية، وإذا كان من غير المتوقع أن يقوم المصرف الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية بمعجزات اقتصادية في بداية إنشائه، فإن تراكم الإنجاز على مدار عقد أو عقدين سيكون أمرا كارثيا لواشنطن، إذ يعني أن البدائل المالية للبنك الدولي الذي تهيمن عليه أمريكا تستطيع تحقيق نجاحات. وأضافت أن التخوف الآخر هو أن يكون المصرف الصيني الجديد بداية لخروج بعض البلدان من العباءة الأمريكية الاقتصادية تدريجيا، وهذا له تداعيات سياسية على المدى الطويل، فبلدان مثل كوريا الجنوبية والفلبين وبنجلادش وسريلانكا وبلدان آسيوية أخرى، قد تجد في المصرف الآسيوي حائطا يمكن الركون إليه، والاعتراض على السياسات المالية الأمريكية التي تشعر حكومات تلك البلدان بأنها مجحفة، ولكنها تلتزم الصمت أو تبدي اعتراضات خجولة عليها تحسبا لقوة أمريكا الاقتصادية، ولأنه لا يوجد لديها حاليا بديل آخر يضمن تقديم المساعدة لها، والصين تقدم لهم هذا البديل ليس بمفردها، ولكن بدعم دولي حتى من حلفاء أمريكا في أوروبا. ويعتقد عدد كبير من الاقتصاديين الأمريكيين أنه بفضل المصرف الآسيوي ستمتلك بكين للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية القدرة على ربط آسيا عمليا بها، وأن تصبح المركز الذي تصب فيه جميع هياكل البنية الأساسية الآسيوية، وهذا يفقد أمريكا بعض الاحتكار الذي تتمتع به في علاقتها بالاقتصادات الآسيوية. وأشار الدكتور ديفيد ويلز أستاذ الاقتصاد المقارن في جامعة أكسفورد إلى أنه عند اتخاذ قرار بشأن بناء أو تشييد مشروع كبير في مجال البنية التحتية يكون أمام المسؤول أو متخذ القرار عدد من البدائل، وعليه الاختيار بينها، فعلى سبيل المثال عند تشييد خطوط سكك حديدية لربط مجموعة من الدول ببعضها البعض، لدعم بنيتها الاقتصادية عبر تنقل المواطنين ونقل البضائع، فإن مركز هذه الشبكة وأين يقع ومن المتحكم فيه يصبح قرارا استراتيجيا. وأضاف ويلز أن المخاوف الأمريكية هي أن تستخدم الصين هذا المصرف، وما لديه من إمكانيات مالية، لربط البنية الأساسية للبلدان الآسيوية بها، بحيث تصبح بكين أو شنغهاي المركز الرئيسي لهذه البنية، وتفقد البلدان الآسيوية القدرة الفعلية على تبني قرار اقتصادي مستقل يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للصين. لكن البعض يرى أن المخاوف الأمريكية لا تقف عند تلك الحدود، فالعديد من الشركات الاستثمارية الكبرى في أمريكا، تحقق أرباحها نتيجة ما تناله من عقود لتطوير مشاريع البنية الأساسية في آسيا، وتحديدا منطقة جنوب شرق آسيا، وتتخوف الشركات الأمريكية حاليا من أن يكون إنشاء المصرف الآسيوي للاستثمار الذراع الذي ستؤول بموجبه العطاءات لصالح الشركات الصينية أو البلدان الأعضاء في المصرف، وأن تستبعد الشركات الأمريكية تدريجيا من الأسواق الآسيوية. على صعيد آخر، يتخوف اقتصاديون أمريكيون أيضا من أن يشهد المصرف مستقبلا قفزات تتعلق بزيادة رأسماله التأسيسي، فالرقم المعلن حتى الآن 50 مليار دولار أمريكي، وهو رأسمال يعتبره البعض متدنيا للغاية سواء بالنسبة لما تتمتع به الصين من احتياطيات نقدية تقدر حاليا بثلاثة ترليونات دولار أو بالنسبة لاحتياجات البنية الأساسية في القارة الآسيوية التي تقدر بثمانية تريليونات دولار للحفاظ على المستوى الراهن للنمو الاقتصادي. وربما زادت حدة الانزعاج والتوتر الأمريكي من المصرف الآسيوي للاستثمار والبنية التحتية مع تقدم روسيا بطلب عضوية وقبوله، إذ يمثل ذلك منفذا يمكن لموسكو اللجوء إليه لتخفيف حجم الضغوطات الاقتصادية الكبيرة التي تتعرض لها، جراء العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها نتيجة الصراع الدائر في أوكرانيا. لكن الجديد في الأمر أن بعض الأصوات الاقتصادية بدأت تتساءل: هل يمكن للولايات المتحدة الوقوف بمفردها وحيدة في مواجهة المجتمع الدولي ومواصلة معارضتها للمصرف؟ وما هو المتاح لها من قدرات اقتصادية يمكن أن تعرقل بمقتضاها المشروع الصيني؟ عن تلك الأسئلة، يجيب الدكتور دان ويبستر أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة أبردين قائلا، إن علينا أن نأخذ الصراع في إطاره الشامل، فأمريكا أكبر اقتصاد في العالم تليها الصين، والرفض الأمريكي يأتي ضمن مساعيها لعرقلة تقدم الصين لاحتلال المرتبة الأولى اقتصاديا، كما يجب الإقرار بأن أمريكا لديها قدرات اقتصادية ومالية ضخمة، يمكن أن تصعب الأمر على المصرف المقترح، وتعيق بعض أنشطته، لكنها لا تملك القدرة على إيقاف المشروع وقرار الصين والدول الأعضاء المضي قدما في تأسيسه. وإذ يقترح بعض الاقتصاديين أنه إذا كانت لدى واشنطن محاذير وتخوفات من المصرف، فإنها بانضمامها إليه سيكون في قدرتها التأثير فيه من الداخل بدلا من مواصلة الاعتراض، في الوقت الذي تواصل فيه الصين وأعضاء المصرف المضي في طريقهم لتأسيسه. إلا أن آخرين يعتبرون أنه من الصعب حاليا سحب واشنطن لاعتراضاتها فجأة والتقدم بطلب عضوية، إذ سيعد هذا ضربة قوية لهيبتها الاقتصادية والمالية عالميا، لكنهم يدعون واشنطن إلى تخفيف حدة الانتقادات في الوقت الراهن، ووقف حملتها للعرقلة على المصرف، والتمهل بتقييم أدائه خلال الفترة المقبلة، مع إمكانية البحث عن سبل للتنسيق بين المؤسسات المالية الأمريكية والمصرف الآسيوي، ودعوتهم لبكين إلى أخذ المصالح الأمريكية في آسيا بعين الاعتبار أيضا، تفاديا لإشعال نيران حرب اقتصادية بين الطرفين، سيكون الفائز فيها خاسرا.