ليس سرا أن الإعلامي في الصحف الورقية أو في الفضائيات أو في فضاء الانترنت يختبر أوقاتا لا يجود عليه عقله فيها بمواضيع جديدة، تصبح أزمته هي عنوان التقرير القادم أو البرنامج التالي أو المقال الجديد المعد للنشر، وبالتالي هناك قائمة بالمواضيع التي يمكن أن تسعف الإعلامي والكاتب في مثل هذه الظروف، كالكتابة والحديث عن القضايا الخدمية المتكررة، أو عن قضايا تشغل الرأي العام بشكل مستمر ويمكن الكلام عنها من زوايا متعددة مثل الإرهاب وجماعة جديدة كداعش مثلا، ويبدو أن الأمراض المزمنة على رأس قائمة كثير من الإعلاميين والكتّاب، فالتحديثات المتواصلة حول آخر الاكتشافات في عالم المرض ومسبباته، وعن ارتفاع الحالات المسجّلة وتغيّر نسبة الوفيات، وعن دواء جديد اكتشف مؤخرا في مركز متخصص في ولاية أمريكية مثلا. على رأس هذه القائمة أمراض السرطان والإيدز والفشل الكلوي، وفيروسات جديدة لا يخلو منها عام من الأعوام في الألفية الجديدة مثل فايروس كورونا مؤخرا. عدد المصابين بالسرطان في السعودية 7000 في كل سنة، ومن المتوقع أن يصل هذه السنة إلى 14000، وزيادة العدد لا تعني بالضرورة زيادة الإصابات، بل قد تعني زيادة الوعي بالمرض والحرص على الكشف ومراجعة المراكز المتخصصة. فلو اعتبرنا أن 7000 مريض هو المتوسط في كل سنة، وأخذنا عدد المصابين في السنوات الخمس الأخيرة، فهذا يعني أنهم قرابة 35000 مريض، ولو احتسبنا الدائرة القريبة جدا من كل مريض من العائلة والأصدقاء بعدد 10 لكل مريض، سيكون لدينا 350،000 شخص لهم علاقة مباشرة بمرض السرطان، ولهم قريب أو صديق مقرب جدا مصاب بهذا الداء. عدد مصابي الفشل الكلوي في السعودية قرابة 15000 مريض، لو احتسبنا العدد نفسه، فالدائرة القريبة تصل إلى 150،000. وعدد مصابي الإيدز في سنة 2013 يتجاوز 1700مريض، فلو احتسبنا العدد نفسه في الخمس سنوات الأخيرة، واحتسبنا الدائرة القريبة، فهم قرابة 85،000. العدد التقريبي للدائرة القريبة جدا من العائلة والأصدقاء للمصابين بهذه الأمراض الثلاثة المزمنة (السرطان، الفشل الكلوي، الإيدز) يتجاوز نصف مليون في السعودية، هذا الرقم يجب أن يؤخذ بالحسبان أمام كل عبارة وعنوان وخبر تكتبه صحيفة، أو تقرير تعرضه قناة فضائية عن هذه الأمراض يحتوي صورا ومشاهد وسيناريو. إنه من المزعج أن يكتب إعلامي بكل بساطة عنوانا عريضا عن ارتفاع نسب الوفاة في مرض ما بصياغة معلوماتية باردة لا تكترث بالمرضى ولا بدائرتهم القريبة، أو أن تنشر شخصية شهيرة في تويتر صورة لمريض قبل الإصابة وبعدها، في صورة تثير الذعر، ليحرز بذلك سبقا أو إثارة أو زيادة في عدد المتابعين. إنك كمن يستيقظ صباحا في حرب وتحت القصف، فيقول إن عدد الوفيات هذا اليوم في هذه المدينة يصل إلى نسبة تتجاوز 15%، هكذا يحرر العنوان بكل برود معلوماتي. حين تكون في مجلس ما وتتحدث عن أحد هذه الأمراض، أو حتى عن قتلى الحوادث أو عن أصحاب الاحتياجات الخاصة، فإن الفرق كبير بين أن يكون أحد هؤلاء أو ذويهم موجودا في المكان أو لا. حين يكون موجودا فإنك ستراعي كل كلمة، لن تتعامل مع الموضوع وكأنه لا يعني أحدا. هذا ما أعنيه تماما، الإعلام بسبب كثرة الحديث عن الأمراض المزمنة الخطيرة أصبح يتحدث عنها وكأنها لا تعني أحدا، كأنك تقرأ في موسوعة علمية لا أكثر. ومع هذا الاهتمام الإعلامي البارز مؤخرا في عرض آخر التحديثات المتعلقة بهذه الأمراض لا نجد وعيا مصاحبا بطريقة التعامل معهم ولا باحتياجاتهم، بل بالعكس يتم الترويج كثيرا لقوالب جاهزة في التعامل، مثل أهمية مجموعات الدعم، مع العلم أنها تصلح لأناس دون آخرين. ليست الفكرة هنا في ألا تكتب، ولا ألا تطرح، ولا أن تزور المعلومة، ولا أن تبعث أملا زائفا، بالعكس لا بد من عرض المعلومة الصحيحة والصادقة، بل الفكرة هي أن يتحلى الإعلاميون والكتّاب بالمسؤولية واللطافة. أن يستشعروا أن هؤلاء المرضى ودوائرهم القريبة ليسوا بحاجة إلى من يذكرهم يوميا بأنهم سيموتون قريبا، لأنهم حين يكونون في عيادة الطبيب يعرفون تماما ما يجب أن يعرفه كل مريض، وهو حين يخرج إلى الحياة خارج أسوار المستشفى، لا يريد غالبا أن يكرر ما سمعه هناك. أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد