الاستقرار القصير نسبيا الذي تعيشه أوروبا لم يأت من فراغ، فلم يبدأ إلا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وقناعة أوروبا أنها لن تنال بالقتل ما تناله بالتعاون، فكان أن خرجت للوجود فكرة الاتحاد الأوروبي التي تدرجت في عدة معاهدات وصلت قمة النضج في عام 1992م عندما وقعت اتفاقية ماسترخت ليضم الاتحاد الأوروبي حاليا 28 دولة أوروبية. ما حدث في القارة العجوز من حروب فاق ما شهدته قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا مجتمعة، وذهب ضحيته عشرات الملايين من البشر وبخاصة أثناء الحربين العالميتين الأولى: التي نشبت بين القوى الأوروبية في 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر من عام 1918م، والثانية: التي كانت حربا مدمرة بدأت في 1 سبتمبر 1939 في أوروبا، وانتهت في 2 سبتمبر 1945م. الاتحاد الأوروبي يهدف إلى صناعة الاستقرار والتعايش بين طوائف وعرقيات كانت متناحرة إلى ما قبل 70 عاما تقريبا. التنافس العرقي إلى حد الكراهية الذي سيطر على دول أوروبا وبخاصة منطقة البلقان، لعب دورا مهما في نشوب الحربين الأولى والثانية، فلم يكن هناك من محرك أكثر فعالية من تلاعب القوى العظمى إذ ذاك بقرار بعض الأعراق والأقليات والتحكم في روح الانتقام الجامحة، وتفجير رغبات مكبوتة بسبب التمايز العنصري والتعالي الطبقي على أساس النبلاء والعبيد. لم يكن ممكنا لروسيا أن تستولي على بعض مقدرات العثمانيين لو لم تجد مكونات أوروبية تتحكم في إدارة بأسها عن بعد؛ فتحكّم روسيا في القرار الصربي، وتعاظم نفوذها في رومانيا قد سرّعا من وتيرة الأحداث التي أدت إلى نشوب الحرب الأوروبية الأولى. الدور الذي لعبته روسيا في أوروبا آنذاك تلعبه إيران في محيطها هذه الأيام، فسيطرتها على القرار في صنعاء، ودمشق، وقبل ذلك بيروت، واتكاؤها على العراق واتخاذه منطلقا لتحقيق أهدافها يجعل البدايات تتشابه خاصة بعد تأزم الوضع في اليمن، وتواتر أخبار موثوثقة عن قيام مليشيات الحشد الشعبي (الشيعي) بحرق منازل السنة وممارسة تطهير طائفي غير مسبوق تحت سمع وبصر إيران، وبقيادة الإيراني قاسم سليماني. السنة والشيعة عاشوا بتوافق في البلدان التي تضم هذين المذهبين، فلم يسجل في اليمن غير التعايش بين الطائفة الزيدية والشوافع، وكان أكثر من 60% من الجيش العراقي الذي خاض الحرب ضد إيران من الشيعة، وفي لبنان لم يكن أحد يزايد على تعايش المسلمين وغير المسلمين ناهيك عن الشيعة والسنة. فما الذي قلب ميزان التعايش وأدى إلى هذا الاحتقان وفتح الباب واسعا على حرب قادمة في المنطقة على أسس طائفية؟ ليس من شك أن الثورة الإسلامية، وحكم ولاية الفقيه الذي جاء به الإمام الخميني لعبا دورا كبيرا في الفرز على أساس طائفي، وقد أثار ذلك خيال الشيعة بل وحتى بعض الحركات الحزبية المنتمية للسنة تأثرت بشعارات الثورة الإيرانية. إيران تعد نفسها منذ انطلاقة ثورتها عام 1979ه للعب دور قيادي في المنطقة على اعتبار أن ذلك تتويج لنجاح ثورتها، بيد أنها تقفز فوق حقائق يصعب تجاوزها ومنها أن 85% من المسلمين حول العالم هم من السنة، وأن هامش التعايش بين المذهبين قد قلصته إيران كثيرا كثيرا، حيث تشير دراسة غربية نشرت عام 2012 إلى أن 14% من العراقيين يرون أن الشيعة طائفة غير مسلمة، وترتفع النسبة إلى 21% في لبنان، و40% في الأراضي الفلسطينية، و41% في تونس و43% في الأردن، و50% في المغرب، و53% في مصر إضافة إلى الموقف الماليزي الأخير من الشيعة. هذه المؤشرات ليست مغرية لإيران للمطالبة بدور يفوق إمكاناتها، إلا أنها في ذات الوقت تراهن على احتدام الكراهية بين الطائفتين وهي النذير الأول بين يدي حرب قد تكون إيران طرفا فيها. الإيرانيون لايستهان بقراءتهم للوضع الراهن، ولذلك فإنهم لن يتورطوا في حرب مباشرة، بيد أن لهم الآن قواعد يمكنها أن تخوض حربا بالوكالة من أجل مصالح إيران، ويكفيها بعض التلميحات والتسريبات التي تهدف إلى الدعم النفسي لمن يحاربون نيابة عنها واستفزاز الطرف الآخر عبر ماكينة الدعاية الضخمة التي تديرها من بيروت ولندن. يدعي الإيرانيون زعامتهم للشيعة، وذلك بكل أسف غير صحيح، فالمرجعية عربية مقرها العراق، ولكن تفريط العرب المعروف في كل وسائل قوتهم مكّن إيران من اختراع البديل وإدارة الكذب باحترافية عالية. إيران تعمل بفاعلية في الأماكن التي يتفشى فيها الجهل والعوز عن طريق وكلائها من المراجع الذين يسبحون بحمدها في صعدة، ودمشق، وبغداد، والضاحية الجنوبية. وهي تفشل فشلا ذريعا حيثما يكون هناك نور، والعامل المهم في هزيمة أجندتها يتمثل في نشر الوعي بين المسلمين الشيعة والتحذير من شر إيران ومطامعها، تماما كما تتم توعية المسلمين السنة وتحذيرهم من الأفكار الإرهابية المارقة. الغطاء الدولي الذي تمده أمريكا فوق إيران حاليا لايخرجها من محور الشر فقط، وإنما يقدمها شريكا في احلال السلام في المنطقة. أمريكا التي لاتملك أن تخلع على إيران التي لاتستحق. لم يكن لها وجود في اليمن ولا سورية ولا لبنان ولا حتى العراق، وتقديمها للعالم دولة مسالمة هي رغبة أمريكية. إن سياسة النفس الطويل ليست بالضرورة فاعلة في نزع فتيل الحرب، فقد تمنع الحرب الشاملة ولكنها لن توقف الإيرانيين عن قضم المزيد من الجغرافيا، وتسميم البيئة المحيطة. إيران أجبن من أن تدخل حربا بجيشها ومقدراتها، ولكنها تستطيع تحريك أصنامها التي تقود باسيجاً من الجهلة في كل من صعدة وجنوب لبنان، والعراق لقتل العرب بعضهم بعضا تحت لواء الطائفية. لمراسلة الكاتب: aaltayer@alriyadh.net