وقف أمامي متحمسا، ثم عرّف بنفسه بعد أن أنساني تقادم عهدي به شكله واسمه، وأعيتني الحيلة أن أتذكره أثناء لقاء جمعني به قبل عدة أيام في إحدى المناسبات، فعهدي به تجاوز ما يقارب ثلاث سنوات تقريبا، كان حينها شخصا على بوابة البحث عن هوية لشخصيته، كان يحاول لكنه لم يكن قد حدد وجهةً بعينها لنشاطه أو ميولاته، ولهذا صعقتني بطاقته الشخصية التي قدمها لي حتى كادت كأس الشاي تسقط من يدي لهول ما قرأت، فتحت اسمه كتب عبارة (خبير إعلامي)!! هنا مكمن الدهشة والتعجب والغرابة وكل مشاعر الصدمة البشرية، حين تتذكر بأن الشخص الماثل أمامك لم يكن له يوما ما أي عطاء في هذا المجال أو ذاك، ولكنه بات وبعد ثلاث سنوات فقط خبيرا إعلاميا، فما كان مني إلا السعي للتخفيف من هول صدمتي، كي لا أظلمه أو أتعجل في الحكم عليه، فوجّهت إليه السؤال التالي: يبدو أنك درست في المجال الإعلامي، وأنجزت فيه شهادة علمية خوّلتك لأن تصير خبيرا في تفاصيله وإشكالياته؟، فأجاب وبثقة ترافقها ابتسامة عريضة: «لا، لم أدرس. لكنني مارست العمل الصحفي لمدة سنة كاملة، وفي إحدى الصحف الإلكترونية، فاكتسبت من هذه التجربة الصحفية خبرة كبيرة في هذا المجال، خوّلتني لهذا اللقب». انتهت إجابة الرجل، التي لا أظنها أقنعتني ولا أظنها ستقنعك يا قارئي الكريم. فقد امتعضت كثيرا لما آل إليه الحال من استسهال في توزيع الألقاب، وفوضى في ترويج البعض لأنفسهم كذبا وتلفيقا دون رادع من ضمير أو شعور بالخجل، خاصة وأنها ظاهرة انتشرت في كل المجالات مؤخرا. قديما، لم يكن اللقب العلمي أو الثقافي أو الأدبي أو الإعلامي مهانا إلى هذا الحد، بل كان العالم يتورّع عن تلقيب نفسه بلقب يليق به عن جدارة واستحقاق، فتجده يتسامى عن أن يحوز لقبا يحمله مسؤولية تبعاته، وهي حالة وعي حقيقية افتقدها هذا العصر حتى باتت الألقاب (ملطشة) يهبها الإنسان لنفسه دون منجز أو عطاء، ولا أكثر من أن يضع اللقب الذي يروق له على واجهة بطاقة يطبعها بريالات معدودات ويوزعها هنا وهناك، فبات من الطبيعي أن تجد ناقدا بلا أي تجربة نقدية، ومسرحيا بلا أي عطاء مسرحي، وخبيرا بلا أي خبرة، ومستشارا بلا أي استشارة، علما بأن المحيط المجتمعي الهش يسهم في تأكيد هذا الخواء بتصديقه هذه الكذبات العلنية، ومساعدته على ترويجها وتحويلها من حيز الأكذوبة إلى حيز فرضها كواقع وحقيقة، وهو أمر خطير للغاية كونه يخلط أوراق الغث بالسمين، ويهمش المنجزات الحقيقية، مع فسح المجال لأهل الدجل والتزييف والأكاذيب ليقودوا الساحات ويتزعموا المواقع. والخلط والفوضى، يدفعان بنا إلى تثمين ذلك التحذير الشديد الذي أصدرته وزارة الثقافة والإعلام قبل أيام، بمحاسبة كل مطبوعة لا تتوخى الدقة في منح لقبي «شيخ» أو «دكتور»، وكم كنت أتمنى التشديد أكثر في هذا الشأن لأولئلك الذين يوزعون ألقاب الناقد والخبير والأديب والمسرحي وغيرها من الألقاب وهم عنها ببعيد، كصاحبنا (الخبير الإعلامي) الذي لم يتجاوز عمر عمله في صحيفة إلكترونية سنة واحدة!! وغيره كثير! *أستاذ الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة الملك فيصل