على عكس ما كان متوقعا، فإن السنوات المقبلة سيتجه فيها العالم إلى القبول بحرية أقل، أملا في حياة أكثر أمنا. ففي سابقة هي الأولى من نوعها حجبت فرنسا، الأسبوع الماضي، 5 مواقع إنترنتية، بتهمة الترويج للإرهاب، من دون العودة إلى القضاء. وهذا ليس إلا أول الغيث، والآتي سيكون أعظم، بعد إقرار قانون مثير للجدل، يسمح للسلطات الإدارية الفرنسية بحجب مواقع قد تحرض على العنف أو إباحية تستغل الأطفال، دون العودة إلى أي مرجعية قضائية. وإذا كانت أحداث 11 سبتمبر قد استجرت أميركا إلى إجراءات بوليسية لا تزال تزن ثقيلا على الحريات بما فيها حرية الصحافة والتعبير، في بلاد هي رمز الديمقراطية، فإن اعتداء «شارلي إيبدو» الدموي أجبر غالبية اليسار الفرنسي على قبول ما كان رفضه بشدة منذ 3 سنوات. أما «غزوة تونس»، كما أطلق عليها «داعش»، وما تسببت به من مجزرة للسياح في متحف «باردو» الذي لم تحترم فسيفساؤه، ولا ندرة مقتنياته، فإنها دفعت برئيس الحكومة التونسية الحبيب الصيد إلى الإعلان عن نيته إغلاق مواقع مؤيدة للإرهاب على الإنترنت، من ضمن مجموعة إجراءات احترازية. وهكذا فإن هيئات المجتمع المدني التي ناضلت طويلا من أجل إبقاء أكسجين الحرية وفيرا، ستجد نفسها محاصرة بخوف المواطنين وذعرهم المتفاقم، وقبولهم بأي شيء في سبيل مكافحة الإرهاب. وما كانت قد رفضته «أنونيموس تونس» عام 2012 من إنشاء هيئة حكومية لـ«مكافحة الجرائم الإلكترونية»، محذرة من رقابة قد تبدأ بالإنترنت لكنها تصل إلى تكميم الصحافة والأفواه، ستجد نفسها مجبرة على الرضوخ تحت ضغط جرائم الواقع. وفيما كانت فرنسا تسخر من الإجراءات الأميركية الأمنية، معتبرة أنها تمس الخصوصيات الشخصية، وتضغط على الصين بسبب تضييقها على «غوغل» وحجبها لمواقع سايبيرية، ها هي أوروبا برمتها، تجد نفسها ملزمة باللجوء إلى الحجب والرقابة والتضييق على المستخدمين، تحت وطأة التهديدات المتصاعدة. فالوصول إلى إغلاق مواقع يستدعي أولا مراقبة المستخدمين، والاعتماد على خوارزميات وتقنيات محكمة، تسمح برصد المشبوهين، وتحليل المعطيات. ويقول خبراء إن الحكومات الأوروبية ليس لديها التكنولوجيات الدقيقة على غرار «غوغل» و«فيسبوك»، بما يسمح لها بالتعاطي مع الكم الهائل من المعلومات بالحذر والإنصاف الكافيين. ولكن حتى قبل البدء بتطبيق القانون الجديد، ثمة تجاوزات كثيرة ألقت بأبرياء في زنزانات التوقيفات العبثية الظالمة، وجارت على من لا ناقة لهم ولا جمل، ودفعت بالبعض للاحتفاظ برأيه الشخصي لنفسه، كي لا يُحسب في تعداد الإرهابيين. ليست «نيويورك تايمز» وحدها التي تشكك في جدوى الرقابة على الإنترنت لحماية أوروبا، فثمة من يرى أن وصول الأشخاص العاديين إلى المواقع المغلقة بات أسهل من حجبها الذي تمارسه الحكومات، وأن الخطر ليس كامنا في مواقع بذاتها بقدر ما هو متفشٍّ ومبثوث كالسم الزعاف على صفحات التواصل الاجتماعي. وإنْ كانت محركات «فيسبوك» ترصد الصفحات العنيفة وتحد منها، و«يوتيوب» يزيل الأشرطة الجارحة للمشاعر، فإن «تويتر» له سياسة أخرى تجعله المكان الأكثر مواءمة للإرهابيين على ما يبدو، حيث يجدون على صفحاته ملاذهم الأكثر دفئا والمكان الذين ينشرون فيه صور يومياتهم وتفاصيل حياتهم. هذا عدا أخبار جرائمهم. ويقدر عدد الحسابات التي لها صلة بتنظيم «داعش» وحده، على «تويتر»، دون حسبان التنظيمات المتطرفة الأخرى، بحسب إحدى الدراسات، بنحو 46 ألف حساب. وميزة «تويتر» بالنسبة لهؤلاء أنه كان منذ البداية موطئ الصحافيين، وحساباته في غالبيتها الساحقة مفتوحة للعموم، ما عدا 11 في المائة منها، بعكس «فيسبوك» الذي يفضل مشتركوه الحفاظ على خصوصياتهم. كما أن عدد الشباب الذين دون الرابعة والعشرين يتزايد على «تويتر» بشكل ملحوظ، فقد ارتفع خلال عام واحد إلى 62 في المائة، وهم الفئة المستهدفة فعليا بالاستمالة العاطفية أو التجنيد العملي. ومن ميزات الموقع أنه يظهر المواضيع الأكثر حرارة ومناقشة، كما أن البحث عن «الهاشتاغات» ممكن بكبسة زر، مما يساعد على إبراز القصة التي يتواطأ على نشرها المتطرفون، إذا ما قرروا التدخل بشكل جماعي. إدارة «تويتر» حاولت، في الفترة الأخيرة، الحد من التجاوزات الخطرة لأعضاء التنظيم ومريديه، لكن «داعش» رد بتهديد مسؤولين كبار عن الموقع، متهما إياهم بـ«التضييق على حرية الرأي». وهذه ربما نكتة سمجة من نوع آخر. يبقى أن نذكر بأن الفرق الجوهري بين نسختي «القاعدة» و«داعش» أن التنظيم الأول لم يتقن لغاية اللحظة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وبقيت خطبه طويلة ومملة، ووسائله هي المواقع الإنترنتية التي تحاول كبحها الحكومات الأوروبية اليوم، فيما أفلت «داعش» من هذه المصيدة، وصار تتبعه أصعب، واحتواؤه أعسر. فالتجربة الأميركية خير دليل على أن اقتفاء أثر المتشددين الإرهابيين ممكن بفضل التقنيات الحديثة والخوارزميات شديدة الحنكة والذكاء، مع تطوير مستمر للتقنيات، لكن التكنولوجيا نفسها هي أيضا التي تسمح لهؤلاء المتطرفين العنيفين بالتمدد ونشر الدعايات المجانية، على مواقع التواصل الأميركية بشكل خاص، لأنها الأكثر انتشارا وتأثيرا. لعبة القط والفأر بين الإرهابيين وأجهزة المخابرات لن تنتهي غدا، وثمة من يقول إن عقودا ستمضي قبل أن تضع هذه المعركة المفتوحة على مدى القارات أوزارها، وإلى حينها فإن الأمن يقضم الحريات قطعة تلو أخرى، وبرضا الجماهير الغفيرة التي تذعن تحت وطأة الرعب والغضب. الثمن لن يكون رخيصا، فالحريات لم تأتِ مجانا، واستعادتها، في حال فقدت، قد لا تكون أقل كلفة من الحرب على الإرهاب.