عاشت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - تطورا ملحوظا وتحولا نحو التحديث الحضاري والتنمية الاقتصادية، حيث برز ذلك منذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها النفط في المنطقة الشرقية من بلادنا. إذ أسهم هذا المنعطف الكبير في تاريخ اقتصاد المجتمع إلى الاتجاه نحو الأخذ بالوسائل المادية للحضارة: السيارة والطائرة والقطار، الهاتف والتلفزيون، مواد البناء الحديثة، وواكب ذلك انضواء أفراد المجتمع السعودي تحت لواء الدولة ومؤسساتها بعد أن كانوا شيعا وقبائل متناحرة، لينشغلوا بتنمية ذواتهم في عدة أنشطة تراوحت ما بين الزراعة إلى التجارة الخارجية. مضى اليوم على هذا التطور أكثر من 85 عاما، ولكن يجب الاعتراف وبكل شفافية أن حكاية التطور الاقتصادي لم تكن طبيعية بما يكفي للقول إنها نقلة حضارية، وبمعنى آخر إن لم تمرّ بالتدرج الحضاري والتحديث المادي، بل عاشت مرحلة تغيير (راديكالية) نقلت حياة المجتمع بشكل مفاجئ من البداوة والريف إلى تكوين المجتمعات الحضرية، على الأقل على المستوى المادي للحضارة، بعد أن أصبح ريع البترول يجلب لنا كل ما نتوق إليه، دون المرور بالمرحلة "الصناعية" التي تعبّر عن الإنتاج والإنجاز والاكتفاء الذاتي إلى حد معقول نسبيا. ومع وجود الطفرة الاقتصادية هذه، يمكن القول إنها أسهمت بقوة في تحقيق جانب كبير من التحديث التنموي، لكنها لم تسهم في التحول إلى المدنية الاجتماعية، ولذلك لم تتم التنمية بشكل متوازن، نظرا لطبيعة التكوين الاجتماعي، حيث إن مكونات المجتمع الثقافية سار بعضها على نحو أبطأ من بعضها الآخر، لأن المجتمع باختصار يقف عائقا أمام تحديث نفسه، وأسهم في ذلك بوجود فئات اجتماعية وزعامات قبلية رفضت الأخذ بوسائل الحضارة الحديثة حينها من منطلق أنها ضد الدين، وعلى الرغم مما قد تخفيه زعامات تلك الفئات من أطماع سياسية في تمترسها خلف الدين لرفض وسائل حضارية جديدة، وقف الملك المؤسس أمام ذلك بحزم، لكن دابر الشر لم ينقطع مع الأسف، إذ وجد بعد ذلك من يعيد إنتاج هذه الفكرة من خلال رفض دخول التلفزيون -مثلا- باعتباره حراما. اليوم نحن لسنا ببعيدين عن أسلافنا الذين رحلوا خلال ثمانين عاما مضت، ولسنا ببعيدين أيضا عن الحلقة المفرغة التي يعاد فيها إنتاج الرفض الاجتماعي للتحديث والتطوير بشكل أو بآخر. ولهذا لا يمكن أن نكون مجتمعا حديثا ومتطورا قادرا على التكيف مع المتغيرات الثقافية والسياسية والتقنية كافة، ما لم نؤمن قطعا بأن قضية التحديث والتطوير تتجاوز مبدأ استهلاك وسائل التقنية الحديثة، إلى تحديث العقل نفسه، وذلك من خلال تغيير طريقة التفكير، على اعتبار أن التصرفات والسلوكيات مردها طريقة التفكير، ولا يمكن لأحد أن يفكر بطريقة خاطئة متبعا الخطوات نفسها وينتظر نتائج مختلفة، كما يشير العالم الفيزيائي الكبير (آينشتاين). اللحظة الاجتماعية الراهنة في المجتمع السعودي توحي أن ثمة خللا في تركيبة المجتمع الذي انتقل من حياة الرعي والزراعة وصيد السمك واستخراج اللؤلؤ إلى حياة (ليست صناعية)، لكنها تعتمد على استهلاك منتجات الصناعة الغربية والشرقية، في ظل الارتهان للانتماءات التقليدية/ الطبيعية الممتدة المتمثلة في القبيلة والأسرة والطائفة، بشكل موازٍ مع تمدد واتساع النفوذ الاقتصادي للأفراد والأسر التي أفادت من النهضة التنموية في سبعينات القرن الماضي المعروفة بالطفرة. اللحظة الراهنة للمجتمع السعودي تعتبر رضوخا كاملا للعامل الاقتصادي ومتطلبات الحياة المعاصرة، من دون مشاركة أساسية وفعلية في صناعة الحضارة من حولنا، وفي جانب آخر اتكالية مجتمعية على الريع الاقتصادي للبترول بشكل موازٍ للركون إلى العمل الحكومي وفق مبدأ "قليل دائم خير من كثير منقطع"، وهذا ما يفسر أعباء الأجهزة الحكومية وبيروقراطيتها السلبية، في ظل وجود الكثير من مظاهر عدم الاكتراث بصناعة المستقبل، مما يجعل الفرد غير قادر على إبداع لحظته الخاصة المتعلقة بخططه المستقبلية الداعية إلى تثبيت أركانه وأبنائه من بعده، ذلك أنه يعيش لحظة اجتماعية أكبر قادرة على التهام لحظة الفرد الخاصة ومصادرتها، وهذا ما يفسر وجود قوى "الممانعة" الاجتماعية للتحديث والتطوير، حيث إن المجتمع يفكر ويقرر نيابة عنه من قبل "أصوات" نافذة مجتمعيا تحاول أن تعيده إلى اللحظة الأولى التي كان فيها وحيدا في البراري والقفار يهتدي إلى مكانه المقصود بالنجوم. ولا يمكن بطبيعة الحال تجاوز فجوات التنمية الاجتماعية والبشرية من دون إيجاد "خيارات" مجتمعية متعددة توفر مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ضمن أطر الحقوق الإنسانية من جهة والحفاظ على مبدأ المواطنة والوحدة الوطنية من جهة أخرى، وهذا ما يستلزم التفكير في تسريع عجلة التنمية بشقيها الاجتماعي والقانوني لسنّ قوانين جديدة تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع، لتجعلهم يتقبلون وجودهم - سواء أكانوا متفقين أو مختلفين - ضمن إطار وطن واحد مستمر الحركة في مجال التطور والتحديث. وعند الحديث عن "التحديث" كمفهوم لا بد من حضور مفهوم الحياة المدنية التي قوامها ثلاثة عناصر رئيسة: الرخاء الاقتصادي، توفر الأمن، احترام الحريات العامة. وعندها نستطيع القول إننا قد تجاوزنا اللحظة الراهنة ووضعنا القدم على أول عتبة نحو اللحظة المستقبلية التي قد لا نعيشها بقدر ما نتيح لأبنائنا أن يعيشوها آمنين، وهذا ما يجعل التنمية في بلادنا ومجتمعنا لا يمكن أن تطرح كشعار بقدر ما تطرح كغاية وهدف لمراحل مستقبلية، وهذا يستلزم أن يكون الفرد السعودي "شريكا" في إدارة وتنمية المجتمع، وهو ما تضمنته كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مؤخرا. أما قضية "التعايش" فهي خيار تنموي اجتماعي استراتيجي لا حياد عنه، إذ يمكن أن تضطلع به وتنمية المؤسسات التعليمية والإعلامية وفق استراتيجية الشراكة بينهما في قضية التنمية الفكرية للمجتمع.