في مستهل مقالة له عام 1953 تناولت رؤية تولستوي للتاريخ، صنف الفيلسوف ايسياه بيرلن (1909-1997) الكتّاب والمفكرين إلى صنفين، هما الكاتب الثعلب والكاتب القنفذ. واعتمد بيرلن في تصنيفه هذا على مقولة للشاعر الإغريقي أرخيلخوس مفادها أن"الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئا واحدا كبيرا". قنع كثيرون بتأويل هذه العبارة بقولهم إن الثعلب، على رغم دهائه ومكره، ينهزم أمام طريقة القنفذ الوحيدة في الدفاع عن نفسه، لكن بيرلن استل من قولة أرخيلخوس واحدا من أعمق الفوارق بين الكتّاب والمفكرين، بل وبني البشر عموما. يميّز هذا الفارق بين فئتين من الناس: فئة تحيل كل شيء إلى رؤية واحدة مركزية تتسم غالبا بالترابط والوضوح، وفئة أخرى تسلك في تحليلها وتصوّرها للأشياء مسالك متعددة تفتقر إلى الترابط في الغالب، بل تناقض بعضها أحيانا، دون أن ترتهن إلى مبدأ أخلاقي أو جمالي ثابت. إن أفكار المنتمين إلى فئة الثعالب "مبعثرة ومشوشة، ولا تنفكّ تنتقل بين مستويات عدة"، أما أفكار نظرائهم فتتسم بالرؤية الأحادية التي تقدّم تحليلا شاملا ينسحب على كل الظروف. وبحسب تصنيف بيرلن فإن أفلاطون ودانتي وهيجل ونيتشه ودوستويفسكي قنافذ، بينما ينتمي أرسطو وجوته وبلزاك وشكسبير وجويس إلى فئة الثعالب. الروائي الإيطالي ايتالو كالفينو (1923-1985) علق على تصنيف بيرلن، مؤكدا أنه لا يسير على كافة الأجناس الأدبية، إذ استثنى الشعر منه. كما رأى أن القنفذ يركن إلى وحدة مفهومية وأسلوبية متينة، بينما يكيّف الثعلب أساليبه تبعا للظروف. تنبع قوة الأول من حُسن استخدامه للمصادر المحدودة، مما يعني انغماسه في طبيعة الذات، بينما تكمن قوة الثاني في التجريب المدفوع بالتوتر والرغبة في التعددية. يذكرنا تحليل كالفينو هذا بنظرية تعدد الأصوات في السرد التي وضعها باختين. خارج السياق الفكري يقسم هذا التصنيف نمطين معرفيين أو أسلوبي تفكير متغايرين. وقد أفاد كثيرون منه في مجالات مختلفة، ففي مجال الدراسات التخطيطية والاستراتيجية يَعرف القادة القنافذ استجابة وحيدة للخطر، قد تكون فعالة وقد لا تكون، بينما يعرف القادة من فئة الثعالب حِيلا كثيرا لمواجهة التحديات المتعلقة بالرؤى المستقبلية واتخاذ القرارات المبنية على التنبؤ. في المجال السياسي تجعل الرؤية الوحدوية للقنافذ منهم مستشارين ومحللين لا يمكن الوثوق بهم، بسبب تجاهلهم للحقائق أو تحريفها كيما تطابق نظرياتهم، لكنهم قد يكونون رجال سياسة عظماء، مثلما كان تشيرتشل ولينكولن، ولهذا فإن عصر ما بعد الحداثة يولي السياسيين والفلاسفة من الثعالب اهتماما كبيرا، بعد أن استولى القنافذ على الجزء الأكبر من القرن العشرين سيئ الذكر. المجال العلمي استفاد هو الآخر من تصنيف بيرلن، منطلقا من السؤال التالي: إذا سلمنا بصواب التصنيف، ماذا عن الصغار؟ ما الذي يجعل منهم إما ثعالب وإما قنافذ؟ وللإجابة على السؤال، عمد عالم البيولوجيا ديفيد ماكدونلد، زميل بيرلن في أكسفورد، إلى دراسة صغار الثعالب والقنافذ وخلص إلى أن صغار الثعالب تُظهر مرونة أكثر ومراوغة في التعلم بفضل والديها، بخلاف صغار القنافذ التي تتخلى آباؤها عن رعايتها قبل أن تولد. وعلى رغم أن بيرلن أبدى ندمه لاحقا على إشاعة هذا التصنيف، لأنه أُخذ بسطحية وجوهرانية وتجاهل الناس تشديد بيرلن نفسه على أنه تصنيف وهمي وليس بالضرورة أن يصمد أمام التمحيص، خصوصا وأن المقالة المذكورة التي قدّم فيها هذا التصنيف نذرت الجزء الأكبر منها لإبانة أن تولستوي بوصفه مفكرا يصعب تصنيفه كونه يتنقل بين الفئتين، فهو "ثعلب بطبيعته، غير أنه آمن بكونه قنفذا". موهبة تولستوي ومنجزه ينتميان إلى الأول ومعتقداته تنتمي إلى الثاني، وهذا الصراع بين حقيقته وبين إيمانه تجسّد في رؤيته للتاريخ من خلال رواية "الحرب والسلام" التي كانت موضوع مقالة بيرلن. لكن انتشار الفكرة وحجم الإفادة منها في حقول معرفية شتى يوضح مدى أصالتها وصواب تحليلها النسبي للسلوك الإنساني وأنماط التفكير. كاتب سعودي - مبتعث للدكتوراه بأميركا