في تاريخ الثورة السورية الذي بدأ قبل 4 سنوات، انطلقت معارضة خارجية عشوائية في البداية، استهلها مؤتمر أنطاليا صيف عام 2011، ثم محاولات حثيثة لإعلان جسم مؤسساتي يجمع المعارضين بشتى تنوعهم مع الحراك الثوري الموجود داخل سوريا، لحين الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري الذي لم يكمل السنتين من عمره حتى تم اختراقه بتأسيس الائتلاف الوطني تحت تبرير تجاوز أخطاء المجلس، لكن الائتلاف لم يتجاوز سابقه، وإن حظي بعمر افتراضي أطول. لماذا فشلت المعارضة المقيمة خارج سلطة النظام السوري في تأسيس مؤسساتها؟ سؤال يسبر تعقيداته رمزان نشطان كل في مجاله، وإن لم يتقيدا لاحقا بالشكل المؤسساتي التقليدي للمعارضة. المفكر والأكاديمي د. برهان غليون، أول رئيس للمجلس الوطني السوري، يرى ضرورة مقاربة الموضوع من منطلق فشل المعارضة في بناء إطار عمل مشترك كان ولا يزال الشرط الأول لتحقيق أهدافها، أو على الأقل لتحويلها إلى فاعل حقيقي في الصراع القائم حول السلطة، وفي ما بعد حول سوريا نفسها، بين فاعلين كثر، ليس مركب نظام الأسد الأمني والعسكري والطائفي إلا أحدها. فليس المجلس الوطني ولا الائتلاف إلا صيغ لتجسيد هذه الوحدة أو التفاهم بين أطراف المعارضة من أجل تطبيق برنامجها. أما لماذا فشلت المعارضة السورية في بناء مثل هذا الإطار ولا تزال حتى اليوم، فيعدد غليون العوامل ويقول: «أولا لأنها ليست معارضة تمثل قوى اجتماعية واضحة وتمتلك الحد الأدنى من الانتظام الفكري والسياسي والإداري والخبرة. وما كان بإمكانها أن تنشأ داخل نظام يتبع سياسة الحرب الاستباقية تجاه الرأي المختلف، وإنما هي مجموعات محدودة وأفراد عاشوا غالبا في الحصار والعزلة، وتعودوا أن يتنافسوا على رهانات بسيطة أهمها الظهور، ظهور الاسم أو الموقع». وثاني العوامل التي يرى المفكر السوري أنها وراء هذا الفشل، أن «شبه المعارضة» هذه قررت منذ البداية أن تضع يدها على الثورة لتعوم نفسها بعد غرق طويل، فأصابها ما يصيب «العديم الذي يقع على سلة تين»، كما يقول المثل العامي، فأصبحت تتصارع على السيطرة عليها وعلى أجهزتها الوليدة، بدل أن تتوحد ضد عدوها الحقيقي. ولم يقبل كثير من أفرادها، إن لم يكن معظمهم، أن يكون مثقف وأكاديمي في موقع القيادة، واعتبروا ذلك اغتصابا لحقوقهم، هم الذين لا يزالون منذ عقود يتعرضون لشتى أنواع الظلم والتنكيل والإرهاب من قبل النظام. والحال أن سبب النجاح في إنشاء أي مجلس وطني هو توفر قيادة من خارج صفوف المعارضة التقليدية وبعيدة عن نزاعاتها وحساسياتها الطويلة. أما د. رضوان زيادة مدير مشروع «بيت الخبرة السوري» فكان من مؤسسي المجلس الوطني السوري، لكنه انفصل عنه لاحقا وأسس لمشروع يعمل عليه مع 200 باحث، معني بوضع خطة التحول الديمقراطي في سوريا، أي بناء تصور لسوريا في المستقبل من الناحية السياسية والتشريعية والقانونية والأمنية والاقتصادية، وهو أول مشروع تفصيلي يناقش كل جوانب المرحلة الانتقالية. ولا بد أنه بات لديه تصور الآن عن سبب فشل المعارضة في بناء مؤسساتها. ويبقى السؤال: لماذا غادر زيادة المعارضة الرسمية وركز على الدراسات والبحوث حول سوريا؟ يقول زيارة: «عاشت سوريا تحت ظل نظام تسلطي منذ عام 1963، أي منذ وصول حزب البعث إلى السلطة الذي أوقف العمل بكل الأحزاب منذ اليوم الأول للانقلاب، وبالتالي لم يسمح للأحزاب السياسية بالعمل أو النمو حتى صدر قانون الأحزاب بعد بدء الثورة، أي بعد 50 عاما تقريبا على تجميد العمل السياسي داخل سوريا. وطوال العقود الماضية، حتى الآن، لم يسمح في سوريا إلا للأحزاب الحليفة لحزب البعث بالترخيص». إذن، وفي شكل هذه الأنظمة، والكلام لرضوان زيادة، تكون المعارضة ضعيفة للغاية، أو بالأحرى معدومة. لأن ثمن مقاومة النظام مرتفعة للغاية تحت شكل هذه الأنظمة التسلطية. ومن هنا، وبعد انطلاقة الثورة ودخول قطاعات هائلة من الشباب والسوريين من مختلف الأعمار في الحقل السياسي غير المنظم أصلا، عانت المعارضة من فشلها في تنظيم أمورها. وبالتالي لم تستطع المؤسسات التي شكلتها المعارضة على عجل احتواء هذا العدد الكبير من الراغبين والمهتمين بالانضواء تحتها، ودائما كانت تحت شعور فقدان المشروعية، كما حصل مع المجلس الوطني ومن ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، لأن هذه المؤسسات لم تنشئ الثورة أو تقودها في يوم من الأيام. فضلا عن كل ذلك استمرار الأسد في عمليات القتل أضعف من قدرة المعارضة على فعل أي شيء لوقف القتل سوى اللجوء إلى المجتمع الدولي الذي تجاهل مطالب السوريين بكل استخفاف، وتعمد التأخر في اتخاذ القرارات التي تصبح بلا معنى عندما يتم اتخاذها متأخرة، مع الأخذ بعين الاعتبار تسارع الأمور في سوريا بشكل يفوق قدرة المتابع، وبخاصة مع تحول الثورة إلى مسلحة ونشوء تنظيمات وجماعات جديدة يوميا. ويرى زيادة أن المعارضة اصطدمت بـ3 عقبات رئيسية: الأولى عدم قدرتها على تنظيم نفسها بسبب دخول العدد الكبير من الناشطين في الحقل السياسي إلى مؤسسات المعارضة التي لم تكن قد تأسست بعد، والثاني استمرار الأسد في ماكينة القتل اليومي الذي أنهك المجتمع السوري وأفقد المعارضة القدرة على المناورة السياسية والمفاوضات، بحيث أصبحت تفكر فقط في كيفية وقف القتل ولم تجد حلا سوى في اللجوء إلى المجتمع الدولي. ثالثا، تجاهل المجتمع الدولي عذابات السوريين وآلامهم وتعامل معها باحتقار ودون مسؤولية، حتى دخلت سوريا في أعظم كارثة إنسانية في تاريخها لجهة عدد القتلى والمهجرين واللاجئين، ما أفقد السياسة معناها، وتحول كل النقاش إلى متابعة شؤون الكارثة الإنسانية التي أصبحت الحقيقة اليومية للسوريين. هل ضاع الملف السوري دوليا إذن بين قضيتي «داعش» ومباحثات النووي الإيراني؟ وهل زمن إنقاذ سوريا قد فات الآن؟ سؤالان يجيب عليهما الدكتور برهان غليون، بقوله: «بل ضاعت سوريا بأكملها لأنها حرمت من القيادة، فلا الأسد الذي يقتل شعبه بالسلاح الكيماوي ويدمر بلده، ولا المعارضون الذين يضيعون وقتهم في عض بعضهم بعضا والمهاوشة، يمكن أن يمثل أي منهم قيادة، في وقت تفجرت فيه كل الألغام التي وضعها النظام ووضعتها الدول الطامعة في السيطرة على البلاد في جسم المجتمع ومؤسساته». ويصل د. غليون في الختام إلى قناعة، أن إنقاذ سوريا يحتاج قبل أي شيء آخر إلى قيادة تنتزع الملف السوري وقضية السوريين من الأيادي الكثيرة التي تتلاعب بها، وتعيد توحيد السوريين حولها، وتمهد لعهد المصالحة والعودة إلى حضن الوطنية الجامعة بعد تخليص سوريا من وحوشها الكاسرة، «وأن (داعش) و(النووي) تفاصيل بالنسبة إلى هذه المسألة، ولا يفوت زمن إنقاذ الأوطان في أي أوان».