مشكلة القارئ هنا أنه لا يجد شيئا طوال العام لكنه يجد كل شيء خلال أيام المعرض، لذلك بدا المعرض منذ مساء الجمعة وحتى إغلاق أبوابه مساء أمس السبت أشبه بآخر الشمعة حين تتوهّج باحتراق سريع قبل أن تنطفئ تماما، الزائرون على مختلف أعمارهم يقبلون على الرفوف فتبدو خاوية في بعض الدور، فقد شهدت دورة هذا العام مفاجآت عدة تمثلت في نفاد عدد من الإصدارات التي تكرّرت في المعرض سابقا دون أن يلتفت إليها أحد، وهي أحد أهم ملامح المعرض في دورته الحالية حيث تشير المبيعات إلى توجّه قرائي كبير جدا للكتب الفكرية التي كما يبدو يحاول كثير من الشباب تحديدا البحث فيها عن إجابات لأسئلة ظلّت معلّقة منذ سنوات طويلة وعبر موجة قرائية ملحوظة وملموسة للكتب التي تحاور العقل وتبوح بالمسكوت عنه فيه، كذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغفل حضور الأطفال في هذا العام بشكل نوعي. الكتب الفكرية.. إجاباتٌ لأسئلة ظلت معلقة بين ممرات المعرض التقيتُ بزهرات ثلاث لا تزيد أعمارهن عن ثماني سنوات علياء، نورة، مرام البلوشي برفقة أخيهم سعود البلوشي في المرحلة الثانوية وأختهم الرابعة مشاعل البلوشي في المرحلة المتوسطة.. تقول علياء أقتني الكتب الخاصة بالقصص ثم أحتفظ بها.. سألتها هل في بيتكم مكتبة قالت نعم لدى أخي سعود مكتبة ونحن نحتفظ بهذه الكتب فيها ونحرص على ترتيبها.. التفت إلى سعود فسألته عن مكتبته فقال إنني أغذّيها من المعرض وهذه هي الدورة الخامسة التي أشتري فيها كتبا لمكتبتي.. علياء قالت أبحث في كل مرة عن كتب الخيال العلمي ولا أجدها إلا هنا.. عندها تذكّرت أنني أدّعي دائما من أن معرض الرياض الدولي للكتاب وعبر دوراته المتلاحقة كان قد أصّل للمكتبة المنزلية وجعلها ركنا أساسيا من أركان بيوتاتنا المعاصرة، في المقابل وفي إحدى دور النشر فاجأني الطفل الشاب فيصل القاسم وهو الطالب في المرحلة المتوسطة بسؤال عن الدور التي تبيع كتب تاريخ المملكة وأمجاد الملك المؤسس عبد العزيز رحمه الله.. فاستثمرت سؤاله بأسئلةٍ عدة عن المعرض وما الذي يعنيه له فقال: هو مكان أبحث فيه عن كل كتاب أريده فأجده! هنا مكان أبحث فيه عن كل كتاب أريده فأجده! الأطفال والشباب من السابعة حتى سن الثلاثين تقريبا أحد أهم ملامح المعرض وأكثر ما يلفت الانتباه فيه هذا العام ، وإذا كنا قد أشرنا في تقارير سابقة إلى الدور الكبير الذي قامت به جماعة قصتي متمثلة بمسيرات لأطفال صغار يحملون لافتات تحث على القراءة وتبرز أهميتها ينتمون لمركز "قصتي" للتدريب التربوي التابع لوزارة التعليم، في حركتهم وتنظيمهم وإثرائهم لحركة المعرض وتوطين ثقافة الاحتفال بالكتاب، فإننا في المقابل قد نأخذ على بعض المدارس عدم الاهتمام بزيارات طلابهم للمعرض حينما يشرف عليهم نوعية من المعلمين لاتزال تمارس الوصاية على المقروء فينا.. يقول الأستاذ عبد الرحمن الجمعان المشرف على مبيعات ناديي الأحساء وأبها.. يحدث أحيان أن يرغب أحد التلاميذ بكتاب ما.. قد لا يكون أكثر من كتاب قصصي موجه للطفل ومع هذا يتصفحه المعلم قبله ثم يمنعه من شرائه!.. وفي أحايين كثيرة أدخل معه في جدال وأقدم الكتاب هدية لذلك الطفل الشغوف بالقراءة. حفلات التوقيع كثيرٌ من المبدعين الجدد لن يتذاكروا إبداعهم وقيمته إلا من خلال حفلة التوقيع التي احتشد فيها الأصدقاء وصورتها "الأجهزة الذكية" وتناقل صورها الأصدقاء في "تويتر" فالكتب تتشابه ولا تختلف في محتواها غالبا إلا من خلال الحضور الاجتماعي والعلاقات العامة لمؤلفها.. وعلى الرغم من أن لحظة التوقيع.. كانت ومازالت لحظةً مرغوبة ومستهدفة يلتقي فيها المبدع بصورته في عيون قرائه حينما يلتقون بذلك الذي عرفوه من وراء كتاب.. لكن ما حدث في دورة هذا العام من استهداف لها دون استحقاقها جعل من حفلات التوقيع في دورة هذا العام أشبه بذنبٍ يرتكبه المبدع حين ينضم لهذه القائمة الطويلة التي اكتفت من حفلات التوقيع بدقائقها ومن كتابه ليس أكثر من مسوّغٍ لها.. وأظن بالفعل أن ما حدث من اكتفاء بها في دورة هذا العام جدير بتشكيل لجنة خاصة تجيز حفلات التوقيع قبل منح موعد لها من قبل منظمي المعرض بناء على قيمة ما يحتفل به لا على عدد من يُحتفل بهم! وصاية المدرسة.. تستمر في حضرة الكتاب الدور السعودية كثير من دور النشر المحلية تدرك أن هذا الزحام على الكتاب مفقود طوال العام، لهذا تقدّم تخفيضات نسبية مقارنة بأيام المعرض الأولى على الكتب المعتّقة منذ سنوات طويلة في مخازنها، فهي تدرك أنها مهجورة طوال العام، وأن معظم أغلفتها ستبقى محفوفة بالغبار حتى يحين موعد حضورها مجددا في العام القادم، والحقيقة أن واقع المعرض ومشاهداته يطرح سؤالا عريضا عن غياب الكتاب فينا عن التسويق حين يشهد المعرض مثل هذا الزحام وهذا النهم الشرائي الكبير للكتاب، بل إن السؤال العريض الذي يطرح نفسه لماذا لا تستثمر الأندية الأدبية هذا النهم القرائي وتهيئ في بنيتها التحتية مكتبة تضم مقهى ثقافيا ومكتبة تباع فيها الكتب النوعية من خلال عقد شراكات مع عدد من دور النشر في العالم العربي، كما تفعل بعض المكتبات النوعية في الرياض مثلا، لاسيما وللأندية الأدبية معاييرها الرقابية التي تختص بها، هي أسئلة كثيرة تختص بالكتاب الغائب طوال العام لا بد وأن تثار في وجه الحقيقة حين يحضر الكتاب بهذه الصورة المغرية في أيام المعرض.. ولعل الحديث عن الأندية الأدبية يأخذنا إلى احتجاج الكثيرين حيال جغرافية مواقع الأندية الأدبية في المعرض حيث تم تقسيمها الى جزء في شرق ساحة المعرض وجزء في غربها إذ يرى البعض أن هذا التقسيم لا يخدم زوار أجنحة الأندية الأدبية أولئك الذين يبحثون عن تلك الإصدارات المغيّبة غير عن أيام المعرض، ولا أبالغ لو قلت ان كثيرا من الإصدارات الجيدة قد يفاجئك للمرة الأولى في جناح النادي، وبالتالي تبقى عملية جمع الأندية الأدبية مكتملة في جناح خاص بها شأنها شأن الدور "جغرافيا" أمرا يجب مراعاته في الدورات القادمة. وبعد كل هذا علينا القول أخيرًا إن معرض الرياض الدولي للكتاب في دورته التي انتهت مساء البارحة كشف لنا بما لا يدع مجالا للشك أن علاقتنا بالكتاب كما جاءت تماما في شعاره.. تعايش وتحاور وتجاور وأنه علينا أن لا نتردّد كثيرا حين نقول إننا أمة باتت تقرأ أكثر مما تسمع وتكتب أكثر مما تقول.