لما كان لبس الحق بالباطل مما جاء القرآن بذمه في سياق حديثه إلى أهل الكتاب المنكر عليهم كفرهم بآيات الله ــ عز وجل ــ وتكذيبهم رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حيث قال سبحانه: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون). ولما كان هذا اللبس مما يجب على المؤمن اجتنابه، والحذر من التردي في وهدته؛ لسوء مرتعه، وعظم ضرره، وقبح مآله، فإن تبين حقيقته والاهتداء إلى معناه المراد منه أمر لا غنى عنه لمن أراد حيازة الخير لنفسه، واستقامة أمره، بسلوك الجادة، والتجافي عن اتباع السبل التي تفرق متبعها وتقصيه عن سبيل ربه وصراطه المستقيم. ولقد عثرت للإمام الحافظ الناقد أبي الفرج بن الجوزي كلاما بلغ الغاية في النفاسة والجودة والتحقيق، فأحببت أن أغترف للقارئ الكريم من بحر درره وجواهره، ما ينقع الغلة، ويشفي العلة، ويجلي المراد. قال ــ رحمه الله: «التلبيس: إظهار الباطل في صورة الحق، والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا، والرديء جيدا، وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك، وإنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه ويزيد تمكنه منهم، ويقل على مقدار يقظتهم وغفلتهم، وجهلهم وعلمهم. واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سور، وللسور أبواب، وفيه ثلم، وساكنه العقل، والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم؛ فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه، وجميع الثلم، وألا يفتر عن الحراسة لحظة؛ فإن العدو ما يفتر. وهذا الحصن مستنير بالذكر، مشرق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صور كل ما يمر به، فأول ما يفعل الشيطان في الربض: إكثار الدخان، فتسود حيطان الحصن، وتصدأ المرآة. وكمال الفكر: يرد الدخان، وصقل الذكر يجلو المرآة. وللعدو حملات؛ فتارة يحمل فيدخل الحصن، فيكر عليه الحارس، فيخرج. وربما دخل فعاث فسادا، وربما قام لغفلة الحارس، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان، فتسود حيطان الحصن، وتصدأ المرآة، فيمر الشيطان ولا يدري به. وربما جرح الحارس؛ لغفلته، وأسر واستخدم وأقيم يستنبط الحيل في موافقة الهوى ومساعدته، قال بعض السلف: رأيت الشيطان فقال لي: قد كنت ألقى الناس فأعلمهم؛ فصرت ألقاهم فأتعلم منهم! وربما هجم الشيطان على الذكي الفطن، ومعه عروس الهوى قد جلاها؛ فيتشاغل الفطن بالنظر إليها؛ فيستأسره. وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى: الجهل، وأوسطه في القوة: الهوى، وأضعفه: الغفلة. وما دام درع الإيمان على المؤمن؛ فإن نبل العدو لا يقع في مقتل». اللهم أسبغ علينا درع الإيمان، وقنا واصرف عنا تلبيس الشيطان، بمنك وكرمك يا كريم يا رحمن.