نحن في المملكة العربية السعودية في وطن أشبه بالقارة، أسّس كيانه بطل مغوار، ليس له مثيل في هذا العصر، بطل متدين، متوكل على خالقه بكل حركاته وسكناته، أمامه هدف، سعى للوصول إليه، سعى لاسترداد ملك آبائه، ولمّا أكرمه الله بذلك شكر النعمة، فحوّل بهذا الشكر هذه البلاد المترامية والمتباعدة من الفرقة والشتات إلى الجمع والوئام، حوّلها من الفقر والسلب والنهب إلى الغنى والأمن والاطمئنان والاستقرار، باتت مع الزمن مضرب المثل. هذا البطل هو صقر الجزيرة المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - قامت بلاده على التوحيد، دستورها الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة. في عهده - رحمه الله - ركَّز على تدريس (العلوم الشرعية) باعتبارها أشرف العلوم وأزكاها، وعليها المتكأ في شؤون الحياة، فكانت (المعاهد العلمية) من العطايا (الخيّرة) لهذا البطل، فاضت عن نظرته الاستشرافية لمستقبل البلاد، ثم جاء عقبه بعده فعضّوا على منهجه - رحمه الله - وتوالى هذا الاهتمام حتى هذا العصر التنموي الذهبي، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - أدامه الله - محرك (راية) العلم والحوار ومرفرفها، يعضده ولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - نصير حلقات تحفيظ القرآن الكريم. منذ خروجنا إلى هذه الدنيا لم نعِ غير (المعاهد العلمية) المنتشرة في مدن المملكة، التي هي صنو الثانوية العامة، وكنا في (الزلفي) نرى (المعهد العلمي) (غير)، نراه منارة، تزفّ طيوراً في كل سنة؛ لتهاجر لمدينة الرياض، وتلتحق بإحدى الكليتين الموجودتين آنذاك (كلية الشريعة وكلية اللغة)، وهذه نجدها متكررة في باقي مدن المملكة. وطالما أن المعهد العلمي بالزلفي جاء بالذكر لعلّي أسوق هذه الحكاية، وهي طرفة في الوقت نفسه، في أوائل التسعينيات الهجرية، وبعد تخرجنا من الابتدائية، ثلة اتجهت للمعهد العلمي بالزلفي، وأخرى اتجهت لمتوسطة الزلفي، وكنت مع المتوسطين. وبعد مضي سنة تقريباً، وأثناء مباراة قدم، أُقيمت بين فريق المعهد العلمي وفريق متوسطة الزلفي، وأثناء تدحرج الكرة لمرمى حارس المعهد العلمي، صاح لاعبوه قائلين لحارسهم «دعها فإنها مأمورة»، يتمثلون قول الرسول صلى الله عليه وسلم لقبائل الأوس والخزرج في المدينة المنورة، وهم يستقبلونه، وهو على ظهر ناقته. ما علينا، مع تنامي مخرجات كليتي اللغة العربية وكلية الشريعةومع الحاجة لاحتواء خريجي هاتين الكليتين، أُعلن تأسيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي كانت شمعة، تشع مصابيحها في جبين هذا الوطن، تزداد قوة ونوراً على نور مع مرور الأيام والأعوام، تعاقب على إدارتها قامات نحسبهم من الأخيار. هذه الجامعة باتت في سنواتها الأخيرة، وفي عهد ربانها الشيخ الأستاذ الدكتور (سليمان بن عبدالله أبا الخيل) علامة مضيئة، ومنارة لم تقتصر على العلوم الشرعية فحسب، بل دخلت - وبقوة - عالم اليوم بعلومه العصرية التطبيقية، التي يحتاج إليها الوطن، إيماناً منها بأهمية الربط بين الأصالة والمعاصرة. تميزت في حقبة أبا الخيل بكثرة وتنوع الندوات والمؤتمرات المفيدة، ولا غرو أن أطلقت على هذه الجامعة (قلعة المؤتمرات). درستُ في هذه الجامعة للحصول على البكالوريوس من كلية أصول الدين، يوم كان دم كلياتها مفرقاً بين الأحياء، ثم يمَّمت الوجهة لجامعة الملك سعود للحصول على الماجستير من كلية التربية، وبعد ست سنوات عدت أدراجي لجامعة الإمام لدراسة الدكتوراه في كلية أصول الدين، وعلى مدى خمس سنوات عشت بين أروقتها ومكتباتها. لا بد لمن كانت حالته كحالتي أن يلمس الفروقات بين ذاك الوقت وهذا الوقت، يشاهد عمليات التطوير المتلاحقة داخل هذه الجامعة، ولاسيما بعد أن تولَّى شيخها وعرّابها، الموسوعة الشيخ الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل، زمام أمورها. لم تقتصر مساعي وجهود هذا الرجل الهمام على جانب المنشآت الأكاديمية والمساندة، بل ترى آثاره الإيجابية متجذرة في الجوانب الأكاديمية، تشعر بحرصه الشديد على الخروج بهذه الجامعة إلى بر الأمان، بعيدة عن القيل والقال وكثرة الاتهامات، حريص كل الحرص على سمعة الجامعة وخلوها من كل عنصر غير فعّال، تشنّف آذانك تصريحاته الموزونة غير المتشنجة، وتطربك مداخلاته الوطنية. سمعتُ غير واحد من أساتذتها وهو يثني على جهود هذا الرجل الهمام، وحرصه على تمسك الجامعة بهويتها الشرعية من أن تُخدش، كيف لا! وهي المعين الذي لا ينضب، تزود المؤسسات الدينية والشرعية برجالها المتحصنين بالعلم الشرعي، من خلال كليات الشريعة والمعهد العالي للقضاء، وكذلك الدعوة. لك أن تمر بجوار أسوارها الغربية والشمالية؛ لتشاهد (النفرة الإنشائية) في حرمها. من خلال ورش العمل الدؤوبة استطاع مديرها القوي بإيمانه، وإخلاصه لدينه وقيادته ووطنه، أن يستغل ميزانية الخير خير استغلال، ويستغل الدعم اللوجستي لمن لدن القيادة. ويبدو - والله أعلم - أن الرجل بإخلاصه - ولا أزكيه - قد وُفّق برجال من النخب، هم الآخرون مخلصون وأمناء، بدليل أنك ترى ثمرة جهودهم جميعاً أمام ناظريك، ناهيك عن المناشط والفعاليات العلمية وغيرها، مما يخدم الوطن والمجتمع، تراها وهي تتزاحم في عهد هذا (العرّاب) مثل هذه الإنجازات الكبيرة والواضحة للعيان، نالت إعجاب المهتمين من الداخل والخارج. رأينا كيف أثنى (خادم السنة) الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله - على هذه الجامعة بمناسبة حصولها على الترتيب المتقدم في التصنيف الجديد للجامعات، الذي تبوأت بموجبه الجامعة مرتبة متقدمة عالمياً؛ لتدخل ضمن أفضل مائة جامعة آسيوياً، وتحقيقها المرتبة الثالثة على مستوى الجامعات العربية والسعودية. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لا شك أنها تعيش أزهى عصورها، وتلبس أحلى حللها، فبحضورها اللافت كسبت الرهان، وألجمت بعض الألسن، وأخرست الأقلام التي نالت منها في فترات ماضية، أثبتت أنها محضن حصيف من محاضن العلم الشرعي بمنهجه الوسطي، والتربية الصادقة الأمينة، تضم بين قاعاتها وأروقتها نخبة من العلماء والمشايخ والأكاديميين الأفاضل، يؤدون أسمى وأنبل رسالة، وفق المنهج الوسطي، الذي دعا إليه ديننا الحنيف، بقوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً..}. ثنائية (الإنجازات وأبا الخيل) تبقى نقطة تحوُّل في هذه الجامعة، تناطح التحديات، وترتقي بالجامعة لمصاف أرقى الجامعات، ولاسيما الجامعات الشرعية، وتبقى أسماء الرجال العاملين المخلصين محفورة في ذاكرة الوطن، ولا يظنّ ظانّ أن هذه الجامعة هي وحدها في مشهد الإنجاز النهضوي، الذي يشهده الوطن في هذا العهد الزاهر، لا.. لا؛ جامعات المملكة بأجملها - إذا ما استثنينا الجامعات الناشئة - هي الأخرى تشهد ورش عمل، وإنجازاً ونمواً مطّرداً، يسابق الزمن، فالوطن - بإذن الواحد الأحد - من خير إلى خير في ظل عهد وجه الخير. ألف تحية وتحية لعرّاب جامعة الإمام، ولكل المخلصين الأوفياء في وطني الغالي. بقي القول: جامعة الإمام ماضية في تأدية رسالتها بقوة (فدعوها فإنها مأمورة).. ودمتم بخير.