المصير الذي آل إليه العرب من تشرذم وتفتيت وحروب وفوضى «غير خلاقة»، وصولاً إلى الإرهاب والتكفير والذبح والحرق، لم يأتِ من العدم بل هو حصاد لمسار خاطئ استمر أكثر من قرن من الزمان العربي التعيس. الكل مسؤول عن هذا المصير... والكل ينكر ويلقي المسؤولية على الطرف الآخر بعد سلسلة الأخطاء والخطايا والتفرد بالحكم والهيمنة ونهب الثروات وإضعاف الأوطان وتخيير المواطن بين الخنوع والهجرة، إلى أن أدى القمع إلى الانفجار. عناد ومكابرة ورفض للحوار وللبحث عن مخارج وتسويات للمشاكل القائمة، والأنكى من كل ذلك انتشار آفة «تضخيم الذات» وشهوة الهيمنة والاستئثار والغرق في «أحلام الانتصارات الوهمية». وعلى من؟ على بعضنا بعضاً وليس على الأعداء وأولهم إسرائيل. وهذا جرّ الأمة إلى سلسلة مآسٍ ونكبات وهزائم مخزية، من دون أن يحاول أحد تصحيح المسار ويتواضع قليلاً ويعترف بحجمه، ويعرف حدّه ويتوقف عنده. وهذا لا يعني الاستسلام أمام الأعداء لأن المطلوب هو التعامل مع الواقع والاستعداد وإعداد العدة لكل الاحتمالات وتجنيب المواطنين الأخطار، وتعزيز التضامن وحل الخلافات استجابةً للأمر الإلهي: «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا». كما أن الواقعية لا تمنع العرب من الدفاع عن أنفسهم إذا تعرضوا لعدوان، ولا تنكر واجب الجهاد. وأكبر الآفات التي أصابت العرب تمثلت في ادعاءات التفوق والتمتع بقوة خارقة تضلل الشعوب وتخدرها رغم التأكد من عدم صحتها، مع التقليل من قوة الأعداء والاستخفاف بقدراتهم ومخالب مكرهم وإمكانات تآمرهم بشتى الوسائل. ولو استعرضنا محطات من التاريخ، لفهمنا أبعاد هذه الآفة من خلال هذا العرض السريع والموجز: - عندما وقعت نكبة فلسطين العام 1948 استخف العرب بقوة الصهاينة وفاخروا بقدرتهم على سحقهم وحشدوا الجيوش في شكل عشوائي، بلا استعداد ولا تنسيق. وهكذا، فإن مكر العدو لم يقابل بالمكر، فكان ما كان وسط هتافات النصر المزعوم وأناشيد «أمجاد يا عرب أمجاد»، والباقي معروف. وعندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين «المحتلة آنذاك»، رفض العرب أي بحث فيه وأعلنوا النفير على أساس أن التحرير أصبح قاب قوسين وأدنى. ودارت الأيام بين تنازل وتخاذل... إلى أن وقعت الطامة الكبرى في الخامس من حزيران (يونيو) 1967 عندما ضاع النصف الثاني من فلسطين ومعه القدس الشريف والمقدسات وتاجها المسجد الأقصى المبارك، إضافة إلى سيناء المصرية والجولان السوري. - عندما وقعت ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 في مصر تفاءل العرب خيراً ووصل الرئيس جمال عبدالناصر إلى قمة الزعامة العربية الساحقة من المحيط إلى الخليج، وسط وعود وصيحات تكبير وخطابات نارية تؤكد حسم المعركة وتحرير الأراضي العربية ودحر الصهاينة، بينما صواريخ «الظافر» و «القاهر» تعبر الشوارع في عروض متوالية للقوة. وكان من الممكن، إن لم نقل من المؤكد، أن مصر ستنتصر لو أعدت للحرب ووحدت المواقف العربية. وهنا أيضاً بدأ الانحراف بالدخول في متاهات الخلافات العربية وإثارة فتن التفرقة بين الأنظمة والتدخلات في الشؤون الداخلية والقبول بالتحول إلى طرف في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وتبني الانقلابات من دون الالتفات إلى خطورة النفوذ الصهيوني والمطامع الأجنبية بالثروات العربية، من دون أن نبرئ أي طرف عربي أو أجنبي أو نستخف بالأوضاع الداخلية من قرارات التأميم وفساد القطاع العام ومصادرة الأراضي وضعف الاقتصاد. إلا أن الخطأ الأكبر وقع عندما جُرَّت مصر إلى فخ طلب سحب القوات الدولية من مضائق تيران على البحر الأحمر، واستغلال إسرائيل للموقف لتبرير عدوانها الكاسح واحتلال الأراضي العربية، فكانت صدمة لم يفق من أهوالها العرب بعد ومازالوا يدفعون أثمانها الباهظة حتى يومنا هذا. وبكل أسف، فإن الرئيس الراحل كان يمكن أن يوحد العرب ويكرر نصر صلاح الدين، محرر القدس، لكن العكس حصل بسبب تضخيم الذات والغرق في بحار توهم القوة المطلقة والاستخفاف بالأعداء والتركيز على الأقوال لا الأفعال، وعلى الإعلام وكسب الشعبية. وبدل توجيه فائض القوة إلى الأعداء تحولت إلى صدور الأشقاء ودخلت طرفاً في صراعات وخلافات داخلية وعربية ودولية ووصلت ذروتها المأسوية في حرب اليمن بين الجمهوريين الذين دعمتهم مصر والملكيين المدعومين من المملكة العربية السعودية. وطال أمد الحرب وتورطت مصر في معارك خاسرة استنزفت طاقتها العسكرية والاقتصادية ودفعت ثمنها الأغلى في هزيمة الخامس من حزيران. هذا العرض ليس المقصود منه إصدار حكم محكمة تاريخية، فهذا لم يحصل بعد بكل أسف، لأن ذلك يحتاج إلى التعمق في كل الوقائع والخلفيات والأسرار والوثائق لتحديد المسؤوليات وكشف أدوار كل الأطراف المصرية والعربية والصهيونية والدولية. لكن الاستشهاد بهذه الواقعة هدفه وضع النقاط على الحروف وأخذ الدروس والعبر والتحذير من أخطاء الماضي في الركون إلى واقع القوة والاستخفاف بأي خطوة أو قرار بالحرب والسلم. - بعد العصر المصري والوعود التحريرية، جاء دور الفلسطينيين وقيام منظمة التحرير ومعها المنظمات الفدائية المتناحرة والمتشرذمة بين الأهواء والأنظمة والانتماءات العقائدية والخارجية، وهنا أيضاً لاحت بارقة الأمل بجدوى العمل الفدائي في تحرير فلسطين إلى أن تضخمت الذات مرة أخرى وانطلقت زغاريد النصر القريب. لكن المسار تحول إلى الدول العربية بدءاً من الأردن في أيلول (سبتمبر) 1970، أو ما سمي «أيلول الأسود»، عندما اشتبك الجيش الأردني مع المنظمات الفلسطينية التي أخرجت لتصب جام قوتها على لبنان المنكوب، فاستضعفته ليقال إن طريق تحرير فلسطين يبدأ من جونية (البلدة الساحلية المسيحية)، إلى أن نشبت الحرب الأهلية اللبنانية - الفلسطينية، وكان من نتيجتها إخراج الفدائيين من لبنان، لتتوالى التنازلات عبر اتفاقات أوسلو ثم الصراع بين «فتح» و «حماس». - بعد تكرار خيبات الأمل تفاءل العرب والمسلمون خيراً بقيام الثورة الإيرانية ضد الشاه، وساد اعتقاد بأن هذه القوة الإسلامية الهائلة ستكون سنداً للعرب والفلسطينيين. لكن المسار انحرف مجدداً ليغرق في متاهات الصراعات والمحاور وغياهب شعار «تصدير الثورة» الذي ساهم في شق الصفوف واستغلاله من جانب الأعداء لإثارة الخلافات وصب الزيت على نار الفتنة السنية - الشيعية، وقابلها في الطرف الآخر في حفلة جنون مشتركة تمثلت في الحرب العراقية - الإيرانية التي استنزفت طاقات البلدين العسكرية والمادية والثروات العربية، واضطرت إيران يومها إلى الحديث عن «تجرّع السم». لكن رغم المأساة الدامية، لم يتعلم أحد من الدرس واستمرت الخلافات ووصلت إلى حد المواجهات: إيران من جهتها، دخلت في صراع الهيمنة في الخليج والمنطقة وامتدت بعدها الى اليمن وسورية والعراق ولبنان، وسط خطابات وعرض للقوة وتأكيد للقدرة على تدمير إسرائيل والكل يطالب بتنفيذ التهديدات. وطالما أنها قادرة على ذلك، فلماذا لا تقدم ولا تنتظر ضربة من العدو حتى تفعل؟ إنها أسئلة مطروحة يحل الجواب عليها كل المشاكل والمآسي التي تمر بها المنطقة بدلاً مما يحصل الآن من صراعات لا يستفيد منها إلا العدو وتتيح له التآمر على كل الفرقاء. كما أن إنفاق الثروات على الصراعات أفلس الخزينة الإيرانية، ما دعا المرشد الأعلى علي خامنئي إلى كشف هذا الواقع بسبب الإنفاق المفرط والفساد والتركيز على التسلح والملف النووي بدل بناء اقتصاد متين، خصوصاً أن تدهور أسعار النفط ضرب إيران في الصميم. - أما صدام حسين، فقد قتله الغرور وورطه شيطان «أوهام القوة المطلقة» بشن الحرب على إيران ثم الخروج منها بنشوة «الانتصار المزعوم» وهو يتحدى العالم ويلوح بأسلحة نووية وكيماوية غير موجودة ليقدم على احتلال الكويت، فجلب الويلات على بلاده وأمته وشعبه وأهله، وانتهى مشنوقاً في بلاده التي استجلب الولايات المتحدة لاحتلالها. - في ظل هذه الظروف المأسوية ظهرت طلائع التنظيمات الإرهابية المتطرفة بعد زلزال تفجيرات نيويورك وواشنطن، وهي تدعي حمل راية الإسلام والجهاد، لكنها أساءت إليه وأعطت الأعداء الذرائع للقيام بحملات عدائية ضد الإسلام والمسلمين. وكان ثمن البرجين الأميركيين سقوط العراق وأفغانستان واندلاع حروب ووقوع حوادث دامية زعزعت أركان العرب وأعطت القوى الإقليمية والدولية فرصة الهيمنة على مقدرات المنطقة وأطلقت يد اسرائيل في القتل والتهويد. وبعد «القاعدة»، أكمل «داعش» المهمة، ولعبت أوهام القوة الدور الرئيس، ومعها حلم العيش في «جنة الخلافة» المزعومة. - وفي آخر العواصف العاتية التي تضرب العرب ما يجري في اليمن من دون ان يتعلم أحد من دروس «الأوهام» التي أشرت إليها، فقد أدخل الحوثيون أنفسهم وبلادهم في اتون حرب لا نهاية لها لأن المنتصر فيها مهزوم حتماً، لأنهم ومعهم من يدعمهم من الإيرانيين لم يتعظوا بما جرى لغيرهم، والأنكى من ذلك أنهم لم يأخذوا في الاعتبار عندما قاموا بمغامرة احتلال صنعاء، قدرات الشعب اليمني - وهم منه - الذي لم تتمكن من قهره قوى الاستعمار والتدخل من العثمانيين إلى البريطانيين ثم المصريين، فقد خرجوا جميعاً يجرّون أذيال الخيبة. وهذا ما يتكرر اليوم بعد خروج الرئيس عبدربه منصور هادي من أسره في صنعاء إلى عدن وانتفاض معظم مكونات اليمنيين ضد الهيمنة ومحاولة الحوثيين فرض أمر واقع بالقوة التي تباهوا بها. فالحل يكمن في الحوار والمشاركة والعودة عن الخطأ حتى لا تنفجر حرب أهلية تدمر البلاد وتشرد العباد وتصب الزيت على نار الفتنة السنية - الشيعية. واليمن ليس وحده في هذه المعضلة القاتلة، فكل الدول العربية معرضة لهذا المصير، وأولها لبنان الذي تتجاذبه الأيدي والأهواء لجرّه إلى حروب تنهي وجوده وتدمر وحدته الوطنية الهشة، وهو الضعيف المنهك، وكأنه كبش فداء جاهز للذبح، لا سمح الله، بأي لحظة، بينما يشبه بعضهم وضعه بقوة القوى العظمى! مرة أخرى، أكرر أن الارتجال سيؤدي حتماً الى كوارث وويلات جديدة، وهذا يتطلب التروي وعدم المبالغة في تضخيم الذات وتضليل الشعوب وتخديرها بأحلام زائفة.