لندن: عادل مراد رحبت أوساط الاستثمار الأوروبية بقرار البنك المركزي الأوروبي اعتماد سياسة التيسير الكمي (Quantitative Easing) التي بدأت هذا الشهر مارس (آذار) بحجم أكبر من المتوقع بلغ 60 مليار يورو شهريا. وسوف يواصل البنك هذه السياسة حتى نهاية شهر سبتمبر (أيلول) من العام المقبل بحجم إجمالي يفوق التريليون يورو. وتتوجه هذه السيولة الهائلة إلى الأسواق الأوروبية لشراء السندات الحكومية والخاصة، وتهدف أساسا إلى إنعاش الاقتصاد الأوروبي من حالة التقشف والخمول التي حلت به منذ سنوات بسبب تشدد السياسات المالية. ويعني تبني سياسة التيسير الكمي تغييرا جذريا في توجهات الاقتصاد الأوروبي من الانكماش إلى الانفراج، وانعكس أثرها الفوري على ارتفاع الأصول والأسهم الأوروبية وانخفاض قيمة اليورو إزاء الإسترليني والدولار. وسوف يستمر هذا التوجه خلال 19 شهرا على الأقل هي فترة تطبيق البرنامج، أو حتى تتحقق أهداف البرنامج، مما يعني أن أمام المستثمر الأجنبي فرصة استثمار جيدة في بدايات البرنامج الأوروبي قبل عودة الانتعاش في مرحلة قد تكون غير مسبوقة من النشاط الاقتصادي المتوقع منذ تطبيق العملة الأوروبية الموحدة. مدير الاستثمار البريطاني لي غاردهاوس قال تعليقا على البرنامج الأوروبي إن أوروبا بها مجموعة من أفضل الشركات العالمية التي حققت إنجازات كبيرة حتى في ظل سياسة التقشف الأوروبية في السنوات الماضية إلى درجة أنها تفوقت على مؤشر فايننشيال تايمز (فوتسي) لكل الأسهم البريطانية والمؤشر الدولي أيضا. وهنالك الكثير من السحب القاتمة التي تظلل الاقتصاد الأوروبي في الوقت الحاضر، منها تراجع نسب النمو الاقتصادي واحتمال خروج اليونان من منطقة اليورو، وما يتبع ذلك من تكهنات حول من ستكون الدولة التالية، وأيضا ظاهرة الانكماش السعري (Deflation) التي كادت تصل إلى الصفر مع تراجع الاستثمار وتجمد نشاط الاقتراض على رغم سعر الفائدة المنخفض الذي لا يزيد على النصف في المائة. وانعكس ذلك كله على انخفاض أسعار الأصول والعقارات الأوروبية. وتعترض بعض الجهات المالية الألمانية على البرنامج لأنها تعتقد أنه لن يشجع الدول الأوروبية على اتباع سياسات مالية رشيدة وفق قواعد الالتزام بمعايير اليورو من موازنة الإنفاق بالدخل ضمن حيز ضيق من العجز. وقد عبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن هذه المخاوف في حديثها أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في بداية هذا العام. ولكن هذه الأصوات تبدو منخفضة في المزاج الأوروبي العام الذي ضجر من سياسة التقشف التي قصمت ظهر بعض الدول اقتصاديا، ودفع بعضها - مثل اليونان - إلى التلويح بمغادرة اليورو بالمرة. كما أراد البنك المركزي الأوروبي أن يثبت أنه مستقل في سياساته وليس تابعا لوزارة الخزانة الألمانية كما يشاع عنه. وقد صوت مجلس البنك على سياسة التيسير الكمي بأغلبية ساحقة إلى درجة عدم الحاجة إلى عد الأصوات الموافقة. السياسة الجديدة للتيسير الكمي تهدف إلى إلغاء مجمل سلبيات الاقتصاد الأوروبي الراهنة، وتوفير السيولة في الأسواق ورفع نسبة التضخم إلى الهدف المعلن، وهو 2 في المائة سنويا، وبوجه عام مواكبة التحسن الذي طرأ على الاقتصاد البريطاني بعد تطبيق بنك إنجلترا لسياسة تيسير كمي مماثلة وصلت بمؤشر الأسهم البريطانية إلى رقم قياسي حاليا يقترب من 7 آلاف نقطة. «الشرق الأوسط» لاحظت تدشين الكثير من صناديق الاستثمار البريطانية نحو الأسواق الأوروبية بعد أن تجاهلتها طويلا. من هذه الصناديق صندوق «إتش إل الأوروبي» الذي يساهم في إدارته روجر كلارك. واختار كلارك تدشين الصندوق في بداية شهر مارس الجاري لمواكبة النمو المتوقع في الاقتصاد الأوروبي. وفي إجابة عن سؤال: «لماذا يعتقد أن الآن هو وقت جيد للاستثمار في أوروبا؟»، قال كلارك: «في رأينا أن التوجهات السلبية في أوروبا خفضت الأسعار بنسب كبيرة، ولذلك فإن أوروبا الآن تمثل أرخص تقديرات للأصول بين الدول الصناعية». وأضاف كلارك أن من المهم النظر إلى أبعد من عناوين الصحف والاستثمار للمدى الطويل، وللعلم لمن يخشى الوضع في اليونان فإنها لا تمثل إلا نسبة 2 في المائة فقط من الاقتصاد الأوروبي. ويرى كلارك أن بداية برنامج التسهيل الكمي من البنك المركزي الأوروبي هذا الشهر وبحجم 60 مليار يورو شهريا، وإجمالي 1.1 تريليون يورو تبدو مشجعة. وهو حجم هائل من الضخ المالي يماثل حجم الاقتصاد الإسباني، وهو رابع أكبر اقتصاد أوروبي، ويزيد 3 أضعاف عن البرنامج البريطاني المماثل. وهو يقارن بما سبق وحدث في الدول التي طبقت برامج تيسير كمي مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة واليابان، حيث انتعشت الأسواق بعدها، وهو يتوقع انتعاشا مماثلا في أوروبا. وقد قرر كلارك التعجيل بتدشين صندوق الاستثمار الأوروبي من شركته لكي يواكب بداية البرنامج الأوروبي للتيسير الكمي. المستثمر الأجنبي يمكنه أن يدخل السوق الأوروبية من عدة مداخل أسهلها المشاركة في أكثر من 300 صندوق استثمار متاحة تتعامل في الأصول والخدمات الأوروبية، أو بالاستثمار المباشر في البورصات الأوروبية أو دخول المجال العقاري أو شراء الشركات الأوروبية. والمستثمر يبدو الآن في وضع أفضل من حيث القوة الشرائية، حيث إن اليورو تراجع الآن إلى أقل سعر له منذ 11 عاما إزاء الدولار. وفقد اليورو 8 في المائة من قيمته إزاء الإسترليني منذ بداية هذا العام. ولكن التوجهات الإيجابية المتوقعة للاقتصاد الأوروبي يجب ألا تؤدي إلى اندفاع استثماري أعمى، حيث يحذر المصرفي الألماني مايكل كيمر، رئيس هيئة المصرفيين الألمان من احتمال بزوغ «فقاعات سعرية في بعض الأصول بناء على تقديرات خاطئة للمخاطر». وأوكل البنك المركزي الأوروبي إلى البنوك المركزية الوطنية في كل دولة مهمة شراء السندات الحكومية والأصول ولكن بحد أقصى هو ثلث حجم الديون الحكومية في كل دولة. كما لن تكون هناك شروط أو تسهيلات خاصة لليونان. وسوف يتعين على اليونان أن تلتزم بالمعايير الأوروبية الجديدة للبرنامج حتى يمكنها الاستفادة منه. وقال رئيس البنك ماريو دراغي لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إن الهدف المزدوج لسياسة التيسير الكمي هو وقف تراجع الأسعار في أوروبا وتحفيز الاقتصاد على النمو. وأشار دراغي إلى عاملي انخفاض أسعار النفط وتدني أسعار الفائدة على اليورو وأثرهما على تراجع الأسعار إلى معدلات سلبية في بعض الحالات هي الأقل تاريخيا. من ناحية أخرى، كان التأثير الثالث المتوقع من سياسة التيسير الكمي هو انخفاض سعر صرف اليورو إزاء العملات الحرة الأخرى وبنسب وصلت إلى 20 في المائة مقابل الدولار الأميركي، وهو عامل مشجع لشركات التصدير الأوروبية، حيث تصبح منتجاتها أكثر تنافسية في أسواق العالم. من ناحية أخرى تصبح الواردات أغلى ثمنا، مما يضيف إلى نسب التضخم المحلية، وهو في الحالة الأوروبية الراهنة أمر مطلوب. * الرأي المعارض لا يتفق الجميع على أن سياسة التيسير الكمي هي العلاج المنتظر للمتاعب الاقتصادية الأوروبية، وظهر هذا جليا في منتدى دافوس الأخير عندما صرح لاري سمرز، الاقتصادي الشهير ووزير الخزانة الأميركي الأسبق، بأن البرنامج الأوروبي لن يكون له أي تأثير فعال في علاج المشكلات الاقتصادية الأوروبية على عكس البرنامج الأميركي. والسبب، كما يشرحه سمرز، هو أن أحد أهداف البرنامج خفض أسعار الفائدة لدفع النمو الاقتصادي، وهي بالفعل منخفضة إلى أقصى درجة في أوروبا. وكانت أسعار الفائدة أعلى في أميركا عنها في أوروبا لدى بداية تطبيق البرنامج فيها. ويرى سمرز أن ما تحتاج إليه أوروبا فعلا هو برنامج إنفاق حكومي مباشر لدفع الاقتصاد وتشغيل الأيدي العاملة. وفي دافوس، ردت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد على سمرز بالقول إن البرنامج الأوروبي ظهر تأثيره بالفعل مع بداية تطبيقه بانخفاض سعر اليورو، وهو أمر مشجع للصادرات والتوظيف. وهي تعتقد أن انخفاض قيمة اليورو يعد بداية طيبة وناجحة للبرنامج. واتفق الكثير من رؤساء الشركات الأوروبية مع لاغارد. ولكن حتى رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي قال في صدد وصف ما يتوقعه من تأثير البرنامج على الاقتصاد الأوروبي إن ما تحققه السياسة المالية هي وضع الأسس للنمو الاقتصادي. ولكن من أجل أن يتحقق هذا النمو لا بد من وجود الاستثمار، وهو بدوره يحتاج إلى الثقة وإلى الإصلاحات الهيكلية. ومهما تكن الآراء المعارضة، فالأمر المؤكد هو أن أوروبا الآن في وضع اقتصادي أفضل مما كانت عليه قبل عدة أشهر، والتحدي الكبير لبرنامج التيسير الكمي الأوروبي هو إخراج منطقة اليورو من مرحلة الخمول الاقتصادي التي لحقت بها في السنوات الأخيرة والتي أدت بدورها إلى تراجع الثقة الشعبية في المؤسسات المالية الأوروبية وفي حكوماتها أيضا. * التيسير الكمي ليس مجرد «طباعة بنكنوت» تختلف سياسة التيسير الكمي عن طباعة أوراق نقدية بلا قاعدة إنتاجية لها كما حدث في بعض دول العالم الثالث وأدى إلى معدلات تضخم هائلة وهبوط في مستويات المعيشة؛ فالبنوك المركزية الأوروبية توجه النقد الإضافي إلى شراء أصول وسندات حكومية من السوق، وتوفر المزيد من السيولة النقدية للمصارف. وتهدف سياسة التيسير الكمي إلى رفع ثقة البنوك في الإقراض إلى المستثمرين والمستهلكين على السواء، مما يرفع وتيرة النشاط الاقتصادي الإجمالي مع نسب هامشية من التضخم تكون مطلوبة للاقتصاد. وتعاني بعض الدول الأوروبية من خطر التضخم السلبي، أي الانكماش وتراجع الأسعار، مما يدفع إلى الإحجام عن نشاط الشراء على أساس أن السلع في المستقبل سوف تكون أرخص منها في الوقت الحاضر. ولكن مع نسبة تضخم معقولة هي 2 في المائة كهدف البنك المركزي الأوروبي، فإن نشاط الإنفاق والإقراض في السوق يعود إلى وتيرته الطبيعية ويستأنف الاقتصاد نموه. هذه السياسة اعتمدتها اليابان في بدايات الألفية ولجأ إليها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ثم بنك إنجلترا بعد الأزمة المالية في عام 2008، وكان التأخير الأوروبي في اعتمادها بسبب اعتراض ألمانيا عليها على اعتبار أنها تمثل تساهلا في شروط عضوية اليورو والتزام الدول الأعضاء بالانضباط المالي.