لم يخفِ النظام الإيراني، ولو مواربةً، أن تعظيمَه للبرنامج النووي، أياً تكن نهاياته الحقيقية، هدفه بالمحصلة ردع أية نيّة عدوانية تستهدفُ ديمومة نظام الجمهورية الإسلامية وبقاءه. وفي عملية التفاوض التقنيّ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي تطوّرت إلى تفاوض، شبه سياسي، مع مجموعة الخمسة زائداً واحداً، كانت طهران تستدرجُ واشنطن بحنكةٍ نحو الانخراط مباشرةً في أعمال الحوار مع إيران، ذلك أن تبدلَ المزاج الأميركي، وفق القراءة الإيرانية، كفيلٌ بتبدلِ مواقف الدول الأخرى من جهة، كما يفتحُ الباب لمداولات ثنائية تتجاوز الملف النووي باتجاه ملفات المنطقة برمتها من جهة أخرى. والحقيقةُ أن واشنطن ذهبت مذهبَ طهران، فجرى التواصل بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني، كما فُتحت قناة مسقط للتواصل الأميركي الإيراني المباشر، على ما أثار قلق الخليجيين من أعراض صفقة تتجاوزُ رؤاهم ومصالحهم. تأملَ المراقبون باهتمام مراعاة اليد العسكرية الأميركية لنظام الأسد تحاشياً لما يمكن أن يثير طهران، كما الاستفزاز الأميركي لنظام الحكم في البحرين على ما يرضي طهران، كما الصمت المريب لحراك الحوثيين في اليمن بما لا يعادي طهران، كما الإشادة بجهود إيران ضد الإرهاب الداعشي بما يروق لطهران ... إلخ. بيد أن تطوراً ما طرأ على استراتيجيات إدارة أوباما، لا سيما لجهة إدارة ملف الإرهاب وسبل التصدي له. باتت العواصم الأوروبية (في مقدمها إيطاليا بعد فرنسا وبريطانيا وألمانيا) ملحة في تغيير إيقاعات ووسائل الردع للأخطار التي تمثّلها الداعشية، فيما المواقف السياسية الأميركية الداخلية أو تلك الصادرة عن مؤسسات الأمن في الولايات المتحدة (وزير الدفاع الأميركي الجديد آشتون كارت توعد بإلحاق «هزيمة نهائية» بتنظيم داعش)، باتت متعجّلة في انتهاج ما هو ناجع لوقف تمدد تنظيم البغدادي، لا سيما بعد ظهور أورامه الخطرة في ليبيا، أي في الضفة الأخرى للبحر المتوسط المواجهة لأوروبا. في ذلك التبدل في التكتيكات الأميركية ما يفيدُ أن واشنطن لم تعدْ تنعمُ بالوقت الذي يتيحُ لها هامشاً من الصبر في مقاربة النزاع مع إيران. أضحى إغلاق ذلك الملف، أو فتحه على مصراعيه ليكون جزءاً من استراتيجيات الأمن الأميركي، أمراً مطلوباً وشرطاً من شروط التحرك العسكري الأمني الديبلوماسي الجديد. وفي تصريحات كيري حول احتمال انسحاب بلاده من مفاوضات الخمسة زائداً واحداً رسالة أميركية قاسية لطهران قد تربكُ خارطة توسلتها طريقاً لتفاهم تاريخي مع «الشيطان الأكبر». تعرفُ إدارة أوباما طموحات إيران في هذا الصدد، وقد أمعنت في الإيحاء بإمكانيات تحقيقها، وتعامت عن تورط طهران في ميادين العراق وسورية ولبنان واليمن، من أجل إغلاق الخيار النووي العسكري الإيراني تمهيداً للانتقال إلى مستويات أخرى في مقاربة معضلات المنطقة. يعكسُ استعجال الولايات المتحدة لإغلاق سفارتها وتواجدها الديبلوماسي والأمني في صنعاء، وما سببه ذلك من قيام دول أخرى باتخاذ القرار نفسه، امتعاضاً أميركياً مما تخيلته طهران موافقة أميركية ضمنية على خياراتها. يتبرمُ مسؤولو الأمن الاستراتيجي في الولايات المتحدة من تقاعس الأدوات الإيرانية في العراق (الجيش وميليشيات الحشد الشعبي) من تحقيق انتصار على داعش. كما تشكك قيادات أميركية في إمكانية تحقيق القوى العسكرية لنصر مفصلي في الموصل (معركة يقال أن تحضيرات تقوم لتنفيذها خلال نيسان/ ابريل المقبل). واللافت مؤخراً هو تحليلات عسكرية صدرت في واشنطن تعتبرُ العنصر الشيعي في القوى العسكرية المضادة لداعش عامل نفور غير مقبول لدى البيئة الشعبية العراقية التي يسيطر داعش على مناطقها، مدللين على عدم رغبة سكان الموصل في عودة قوات شيعية إلى مدينتهم. هل التهديد الأميركي بالانسحاب من المحادثات النووية مع طهران جديّ أو لا؟ يعود ذلك الأمر لمناورات الكرّ والفرّ بين الطرفين. بيد أن جسارة أمر المنطقة لا تتحملُ تحايلاً ديبلوماسياً أجوف. وحدها طهران تدركُ قوة التهديد الأميركي من هزاله، ووحدها تعرف في تفاصيل المفاوضات النووية، التي تنتهي نهاية آذار (مارس)، مدى حاجة واشنطن إلى كسر الجرة وترك الطاولة، وربما قلبها. ومقابل التشدد الأميركي الطارئ لا يمكن لإيران أن تتشدق بإنجازات وانتصارات في ميادين النفوذ. فهي تعاني من تورط عسكري متعثر في سورية، من الجولان مروراً بدرعا انتهاء بحلب. وتجهد لتحقيق تقدم في العراق دون التورط بمجازر يرتكبها مقاتلون شيعة ضد مواطنين سنة. وتلملم خيبة حليفها الحوثي في اليمن بعد أن أخلى الغربيون صنعاء وهجرها الرئيس اليمني ناقلاً العاصمة معه إلى عدن. يردُّ علي أكبر ولايتي على تهديدات كيري بأن بقاء أو تخلي واشنطن عن المفاوضات «يعود للأميركيين»، فيما يهدد عباس عراقجي (نائب وزير الخارجية الإيراني) بالانسحاب من المفاوضات حول برنامج بلاده النووي في حال «سعى أحد الأطراف إلى فرض إرادته على المفاوضات». من حقّ الطرف الإيراني المكابرة والردّ على التهديد الأميركي بتهكم وإهمال. على أن الأيام المقبلة ستحمل ما يرشح عن مداولات العالم مع إيران حول الملف النووي. تدركُ واشنطن أن العقوبات الدولية قد أنهكت الداخل الإيراني، فيما تلهثُ طهران مربكةً لحصد ما زرعته من نفوذ في المنطقة دون كثير غلال. في أروقة واشنطن معلومات تفسّر دعوة خامنئي للقبول باتفاق (عادل) مع المجموعة الدولية، وفي أروقة واشنطن ما يتيح لها تغيير تكتيكاتها على الحلبة، والتهديد بالرحيل، ففي ذلك ما يقنع إيران بانتهاء المباراة. * صحافي وكاتب لبناني