أشعر بالانكسار أمام نظرة رجل شاب ينتظر أن تدفع له (إكرامية)، وأنكسر أكثر إذا مد يده لأخذ ما تيسر من يد أحدهم. هم شباب في منتهى القوة والصحة البدنية يتقنون ما يعملونه لخدمة الآخرين وفق طبيعة عملهم أيا كان نوعه، ولكن بالتأكيد ما يستلمونه كراتب لقاء عملهم لا يكفيهم؛ ولهذا يفيدهم أن تقدم لهم بعض المال كمساعدة. دائما أفكر ماذا يفعلون به هل يدخرونه أم يشترون به وجبة مميزة.. أو شيئا يرتدونه يؤجلون شراءه دائماً؟ بعضهم يأخذ العطاء باستحياء وبعضهم يصد بعينيه عنك كما تصد أنت خجلا من الموقف حتى ولو كانت بنية الصدقة. هو موقف محرج للمعطي والآخذ في كثير من الحالات، أما في أخرى فهو محزن حين ترى المعطي يقدم بعض المال بتبجح ومنٍ مؤذٍ. قد تجد مطعما تطول قائمة الانتظار لدخوله ربما لساعتين أو أكثر وبجواره مطعم آخر يقف موظفوه أمام الباب بحثا عن زبون يرحبون به!! هذا لا يعني أن الثاني سيئ، أو أن الأول ناجح بامتياز، إنها مسألة أرزاق ترتبط بأسباب متعددة منها: ما يمكن أن نذيعه نحن عن الناجح من مبالغات لدرجة تجعل الناس في حالة استنفار أمام المطعم ليتذوقوا الأكل الذي وصف لهم بكلمات تعبر عن مذاق لا يتكرر!! في مدينة الشارقة بناء جميل ومميز بني بلمسات من الطراز المعماري القديم ويسمى (السوق الإسلامي) تدخله فلا تجد فيه ما يتناسب مع شكل البناء الفخم من الخارج.. فبضائع المحلات فيه من أسوأ البضائع وطريقة العرض فيها طريقة لا تختلف عما نسميه (بسطة) كثير من المحلات تفرد بها أبناء الجالية الهندية وكذلك رواده، ومن الواضح أنهم من الطبقة متوسطة الحال من تلك الجالية؛ ولهذا تجد السوق من الداخل في حالة سيئة جدا تنم عن إهمال شديد في كل الجوانب حتى الطابق الثاني المخصص للسجاد الفاخر والتحف والمشغولات النحاسية هو في أسوأ حال يمكن أن تعرض فيها تلك البضائع المميزة. وكذلك هو الحال في القسم الآخر من المبنى الذي خصص لمحلات الذهب.. يبدو سوقا شعبيا شاحب اللون، خسارة أن تذهب هيبة وجمال بعض المباني المميزة بهذه الطريقة السيئة. لم يكن بين مقاعدنا ومقاعدهم سوى أقل من ٣٠ سم، شاب وزوجته أو أخته أو ربما زميلته لم أستطع تحديد العلاقة بينهما؛ لأنه لا حوار بينهما نهائيا.. كان هو محرجا ممن يحيطون به في ذلك المكان الذي حصرت فيه الطاولة الصغيرة التي تفصل بينهما والتي كشفت ذلك الانفصال النفسي الشديد بينهما، فهي لم ترفع نظرها عن هاتفها الذي كانت تبتسم له كلما قرأت في جهازها شيئاً يستدعي ذلك، وكانت تضطر أن ترفع رأسها عندما يسألها النادل عن طلبها أو حين قدمت له بطاقتها الائتمانية لتدفع بعد أن طلب الرجل من النادل أن تكون الفاتورة مقسومة على اثنين، ولكن لسبب ما لم ينفذ طلبه فقدمت هي بطاقتها!! كانت رفيقتي على الغداء تشعر بالأسى بقوة تجاه الرجل وتقول إنه بحاجة لمن يحتضنه لكي ينقذه من هذا الموقف، فمهما كانت طبيعة العلاقة بينهما، هذا لا يعطيها الحق أن تهينه هكذا أمام الناس. في مكان عام وقفت فتاة من الصم والبكم كانت تبدو مرحة وسعيدة ولم تتوار خجلا أو خوفا من الناس ولم تتردد في التعبير بأصواتها وحركاتها عن استئناسها بالمكان، ولم يكن يفهمها سوى قريبتها التي تقف بجوارها. اقتربت منها فراشة ليلية صغيرة وبدأت تلعب معها وتبدي سعادتها في ذلك، كانت بحاجة لمن يشاركها التعليق على الموقف، ولكن لم يكن أمامنا إلا أن نبتسم لها. اعترضت صديقتي في ذلك الوقت على الحال، قائلة: لماذا لا نجد اهتماما بلغة الإشارة في مدارسنا كمنهج اختياري أو نشاط لا منهجي؟ لكي يكثر عدد الذين يمكنهم التواصل مع هؤلاء في الأماكن العامة ومشاركتهم بعض المواقف الحياتية التي قد تكون ضرورية أحيانا وإنسانية عامة في أحيان أُخر. ففي بعض المدارس العالمية تكون لغة الإشارة ضمن اختيارات الدراسات اللغوية الأخرى المتاحة للتعلم.