سقى الله زمانا مضى، فيه "المنقود" سلطة جبارة تحكم الميزان الجمعي، وتؤدب خير مؤدب، وتحفظ للناس حقوقا لا يستطيع الشارع حفظها. لسنا مستغرقين في الماضي مفتونين به كما زعم نقاد "ت. س. إليوت" حينما هاجموه، ولكننا نعشق الحب والخير والسلام بالأخلاق التي نبتت في أرضنا ولم تستنبت! أبها مدينة الجمال وعاشقة السحاب وصديقة القمر، وحبيبة الضباب، كانت ميدانا لفرسان أعداء المنقود ومحاربيه، هكذا شاهدتهم وعشت بينهم مستقية من وعاء لا ينضب من حساب كل حساب على حسب مفهوم المنقود. فإذا ما انتقد رجل أو انتقدت امرأة قيل في المجلس: (سود الله وجه فلان أو فلانة). ويا له من عقاب اجتماعي! حيث يشعر الفرد أنه قد جرد من ملابسه، فلا أرض تقله ولا سماء تظله. تلك هي سلطة المنقود، حيث يشكل السلطة المركزية في البنية الاجتماعية التي تحكم القاعدة البنائية في صراع دفين في الذات الفردية بين التحرر من سلطة المنقود، لأنها يمكن أن تكون شديدة الحدة والبطش، وبين تبَنٍّ للعرف المجتمعي والولاء له. عشت ذلك في أبها الحبيبة، فأبها لم تكن مدينة متمدنة حسب مفهوم المدينة آنذاك، وإنما كانت جماع قبائل تحافظ على الشرف الذي هو عدو دائما للمنقود! هذا الصراع الدائم بين سلطة المركز المتمثل في مفهوم المنقود وحقل الولاية أو الأبوية النائبة والمتمثل في شيخ القبيلة أو نواب القرى والوديان، كان نوعا من الضبط الاجتماعي بمفاهيم نشأنا عليها وكونت الشخصية السعودية، لأنها لا تزال تعمل في الماضي القريب. كان شيخ القبيلة ومن بعده نواب القرى والوديان هم سلطة الضبط الاجتماعي فيما يبدر بين الأفراد من خلافات وما إلى ذلك كما يفهم الجميع أو قل (حقل الولاية) إلا أن هناك سلطة خفية تسري في سراديب الذهنية المجتمعية تحكم وتضبط وبدون مواجهات أو أعراف ضمنية أو مكتوبة. شيء عجيب لا نعهده بهذه الحدة والقوة في قوة الضبط المجتمعي. ومن هنا كانت الأبوية النائبة في البنية الاجتماعية ليست شيخ القبيلة أو نواب القرى والوديان كما في العرف الذي ذكرناه، وإنما هناك أبوية بديلة أو حقل ولاية هو سر خفي ظاهر وكامن منتشر، وهو البيضاء، حينما يستحسن الجميع مسلك رجل أو امرأة فيقال في المجالس: (بيض الله وجه فلان أو فلانة)! ومن هنا نجد أن هناك سلطة موازية لسلطة الضبط المعروفة الظاهرة والمتمثلة في حقل الولاية والأبوية النائبة، وهي سلطة المنقود الذي يحكم بدوره بالسوداء أو البيضاء! وبعد هذا العرض للبنية الاجتماعية في القبيلة أو القرية أو المدينة - فالكل في شخص واحد هو ابن القبيلة أينما وجد وأينما اتجه - وجب علينا النظر فيما تكون عليه البنية الاجتماعية في ضوء المدينة والتحديث والهجرة إلى المدن، وتلاقح الثقافات الذي نتج عنه ما يسمى بالقوة الصاعدة إلى حد ما، ولذلك نجد هذه الحدة وهذا الصراخ في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في محاولة للتجرد من الثوابت ومنها مفهوم المنقود. فيهاجمون من قبل القاعدة البنائية ويطلقون عليهم مسميات ومفاهيم ومصلحات قد تكون بعيدة عن أصل المسمى أو المصطلح نفسه، وإنما انتقام في محاولة إقصائهم عن القاعدة البنائية، خوفا على الثوابت التي تعتمل في نفوس الأفراد وكانت مثل سلطة المركز في الماضي القريب، فتقسم القاعدة إلى اتجاهات وتوجهات هي في حد ذاتها لا تمثل تلك المفاهيم القاموسية للمصطلح إذا ما رجعنا إليه! فبينية القاعدة هي تلك المتشكلة على حساب دقائق لدقائق الأمور خوفا من سلطة المركز (المنقود) بالرغم من اقتناعها أنه ليس بشر كل الشر، ولا سيئ كل السوء، وإنما تفادٍ من بطش مركز السلطة الخفي المتسرب في أعماق الذات نتاج قرب الفترة الزمنية بين الحاضر والماضي القريب نتاج الطفرة الحضارية السريعة! وعلى سبيل المثال (قيادة المرأة للسيارة) والتي كان لسلطة المركز من "العادات" الدور الكبير في تقبل هذا الأمر، فسلطة المركز (المنقود) هو السر الخفي في تفادي هذا التسرب الوجداني الذي يحل محل الرفض الكامل لهذا الفعل داخل القاعدة البنائية، بين القوة الصاعدة إن جاز التعبير وبين سلطة الأبوية النائبة في شكل الحفاظ على الثوابت، فنحن هنا لا نناقش شأن قيادة المرأة للسيارة بالرغم من أنها أصبحت تقود الطائرة، وإنما نسوق مثالا لكي نجيب عن أسئلة يطرحها الغرباء وعلى غير دراية بشأن البنية الاجتماعية في بلادنا ولما تشكله من نزاع مستمر بين القوة الصاعدة وبين حقل الولاية. وعلى هذا القياس، يجب أن نكون على وعي ودراية بتكوين الشخصية وبتكوين البنية الاجتماعية، لكي نحقق ذلك التوازن في صراع يستغله المغرضون من أعداء الاستقرار، فتلك هي ضريبة التطور السريع والنهضة التي لم تتخذ زمنا كافيا لتكتمل فيه المفاهيم والاتجاهات، وعلينا أن نتعامل معها بود وهوادة، حبا للوطن وللاستقرار، ولصورة الوطن الحبيب الذي هو بريء من افتراءات دعاة الحقوق والواجبات. لقد حققنا نهضة سريعة وعلما وآدابا بسرعة تصل حد الإعجاز، فحققنا ما نحن فيه خلال مئة عام، في نهضة لا تخلو من صدمة حضارية، بين ماض قريب تتحكم فيه سلطة (المنقود) وبين حاضر يساير العالم في تقدمه الذي قد يسبب مشكلة وتصدعا كبيرا في البنية الاجتماعية إذا لم نعمل على تشييد البناء بحب وتوائم والتئام لا يدع للدخيل سبيلا. وقد أقول في أغلب الأحيان: (سقى الله زمان المنقود)! لأنه خير مؤدب فهو الحارس الأمين على الأخلاق.