بعث لي أحدهم على (الواتس اب) هذه القصة الافتراضية، فتعمدت على إيرادها لأن لها دلالة على العقلية الأمريكية: فيقال: إن هناك بلدة صغيرة تبدو شبه مهجورة، وهي غارقة بالديون وتمر بأزمة اقتصادية، وفجأة يأتي سائح غني لتلك البلدة، ويدخل الفندق، ويضع (100) دولار على (كاونتر) الاستقبال، ويذهب لتفقد الغرف في الطابق العلوي ليختار أفضلها. وفي هذه الأثناء، يستغل موظف الاستقبال الفرصة، ويأخذ المائة دولار ويذهب مسرعا للجزار ليدفع دينه، والجزار بدوره يفرح بهذه الدولارات، ويسرع بها لتاجر الماشية ليدفع باقي مستحقاته عليه، تاجر الماشية يأخذ المائة ويذهب إلى تاجر العلف لتسديد دينه، تاجر العلف يذهب لسائق الشاحنة الذي أحضر العلف من بلدة بعيدة لتسديد ما عليه من مستحقات متأخرة، سائق الشاحنة يركض مسرعا لفندق البلدة، ليسدد ما عليه من إيجار متأخر لغرفة كان قد استأجرها عندهم، ويعطي موظف الاستقبال المبلغ، وأخذها موظف الاستقبال ووضعها مرة أخرى مكانها على (الكاونتر) قبل نزول السائح من الطابق العلوي، ينزل السائح الذي لم يعجبه مستوى الغرف، ويأخذ المائة دولار التي تخصه ويرحل عن البلده – انتهى. والنتيجة أن لا أحد من سكان تلك البلدة كسب أي شيء، إلا أنهم سددوا جميعا ديونهم – يعني مثل ما يقول الراسخون في علم التجارة عندنا: الحكاية وكل ما فيها هي مجرد (تلبيس طواقي) – السؤال هو : هل هكذا هي أمريكا تدير اقتصاديات العالم؟! لا أظن أن الجواب يكون بهذه البساطة، أمريكا في اعتقادي (القاصر)، هي دولة – رغم أنها غير مسلمة – إلا أنها تكاد أن تطبق قوله تعالى: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»، أكثر مما تطبقه كثير من الدول المسلمة. وشعارها الراسخ المتداول: (دعه يعمل، دعه يمر)، هو الذي ترجم تلك الآية الكريمة ميدانيا وعمليا وتطبيقيا. لهذا انفتح الباب على مصراعيه لكل من أراد أن يجرب مواهبه وإبداعاته في العلم الذي ليس له حدود، في الرياضة التي ليس لها ساحل، وفي الفن الذي ليس له سماء، وفي الصناعة وفي التجارة، وقبل ذلك كله في النظام والقانون. صحيح أن الأمريكي هو دائما شبه مديون، وهذه ليست نقيصة؛ لأنها تحفزه وتجبره على مضاعفة العمل لتسديد ديونه. إنني لا أحب ولا أكره أمريكا، ولكنني معجب (ببرغماتيتها)، لهذا استطاعات أن توصل رجالها إلى القمر، واستطاعت أن تروض كثير من الأمراض، واستطاعت بمحاصيلها الزراعية أن تساهم بالتقليل من خطر المجاعات الغذائية، واستطاعات بديمقراطيتها أن تفسح المجال لرجل ملون أن يعتلي سدة رئاستها. أما عن سياستها الخارجية، فالكلام عنها يطول، ولكني أختصر الحديث، بأن السياسة الحقة تحتم على أي دولة: أن لا يكون لها أعداء دائمين، ولا أصدقاء دائمين، ولكن فقط لها مصالح دائمة. واسمحوا لي أن أقول: إن أي دولة في العالم لا تمشي على هذا النهج، هي دوله (مخبطة).