لندن: «الشرق الأوسط» عندما بدأ فريق ستيفن ميثين، وهو عالم آثار من جامعة ريدينغ في بريطانيا، ورفيقه بالحفر في الصحراء فإنهما لم يكونا ليتوقعا الكثير مما وجداه. وكانت توقعات ميثين تنحصر كما ذكر لزملائه في القيام بالبحث عن بعض آثار العصر الحجري في جنوب الأردن. لكنهم أجابوه أنهم حفروا هناك، ولم يعثروا على أي شيء جدير بالذكر. إلا أنه وجد بقايا قرية بدائية، وكانت كل آماله تنحصر في الحصول على بصيص ولو دقيق من النور للحياة اليومية التي تعود إلى 11 ألف سنة خلت. * آثار مدهشة * وأثناء الحفر ضرب أحد تلامذته على سطح صلب أملس، كما لو أنه صنع من قبل أحد الصناعيين المحترفين، ليكتشف بعد ذلك سلسلة من السطوح والطبقات والمستويات المحفورة برموز متموجة، الأمر الذي زاد من حماسة الفريق المكلف بالتنقيب، الذي فوجئ بأن الآثار هذه شرعت مع الحفر تتسع رقعتها وتزداد مساحة، وبأنها أكثر تعقيدا في خصائصها مما كان متوقعا. ونقلت مجلة «نيوساينتست» البريطانية عن ميثين قوله: «لم أر آثارا مثل هذه من قبل، جعلت كل أفكاري وتوجهاتي ومخططاتي تتغير». وشرع ميثين يقارن ما وجده وهو بناء على شكل مسرح يشبه المسارح الرومانية، حيث أماكن مصاطب الجلوس الحجرية الطويلة، موجودة في جانب واحد من ذلك البناء المستدير. وبدا من مظهره أنه مصمم لأغراض الاحتفالات الموسيقية، أو الشعائرية، أو غيرها. وكانت هناك أيضا سلسلة من الأخاديد التي تشق أرضية المكان، قد تكون لتصريف دم الأضاحي التي كانت تقدم كقرابين. وعلى الرغم مما كان يجري هناك، فإن المكان بات يعرف الآن باسم وادي فيمان، الذي قد يغير من رؤية العالم في التاريخ الذي يعود إلى 11600 سنة مضت، مما يعني أن الناس هناك كانت في ذلك الوقت تشيد المسارح، قبل أن تعرف الزراعة. وهذا الأمر كان من المفترض ألا يحصل مع نظرية ثورة العصر الحجري الحديث، وهي الثورة التي جعلت البشرية تتخلى عن حياة البداوة والترحال التي خدمتهم بشكل جيد لآلاف السنوات، ليحطوا الرحال بعدها ويستقروا في أماكن ثابتة مع حيواناتهم، ليشرعوا في زراعة الأرض، وابتكار حياة جديدة بنمط مختلف. * حضارة ما قبل الزراعة * قبل 8300 سنة كان الناس في سوريا الطبيعية التي تشمل الآن بسوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، وأجزاء من أناضوليا في تركيا، يملكون كل مقومات وتقنيات العصر الحجري الحديث، أو الجديد (غير القديم)، أي كالقرى، والمستوطنات، وصناعة الفخار، وتربية الحيوانات، وزراعة الحبوب، لا بل كانت هناك أولى ناطحات السحاب في العالم قبل 11 ألف سنة عندما قامت مجموعات من الصيادين بتشييد أبراج بارتفاع ثمانية أمتار، مع سلالم محفورة في الحجر لأسباب لم تعرف بعد. وقد حير برج أريحا على سبيل المثال منذ اكتشافه علماء الآثار. وذكر بعضهم أنه كان منشأة لغرض المراقبة، لكنه قد يكون أيضا أسلوبا لجعل القرويين الأوائل يتحدون وينصهرون في مجتمع صغير. وقد يكون هذا الأمر من أهم التغيرات التي حصلت في التاريخ، كما تقول جينز نوتروف من معهد الآثار في برلين. وكما يبدو فإن الذين شيدوا وادي فيمان ليسوا من البدو الرحل، كما لم يكونوا من المزارعين أيضا، بمعنى الزراعة الحقيقية، بل كانوا صيادين وجامعين للكلأ والمحاصيل البرية، وما قد يقع في أياديهم. فبدلا من الزراعة، كانت هنالك كما يبدو، دوافع أخرى مختلفة جدا لتجمع هؤلاء القوم سوية، كالشعائر الدينية، والثقافة المشتركة، وأسلوب الحياة، وانعقاد الشمل حول الولائم، وربما وجود مصدر ثابت للغذاء. وقد تكون جذور الحضارات الأولى هذه نتيجة هذه التغيرات الاجتماعية، وهذه كانت أكثر عقلانية مما سبق، وكلنا يدرك أن حضارة القرن الـ20 قامت ربما على تغيرات كهذه، مثل نشوء المزارع، وبعدها تطورت الثقافة بصورة سريعة، ثم الثورة الصناعية. لكن تلك التغيرات كانت تحصل كما يبدو في سوريا الطبيعية قبل 10 آلاف سنة، مع انتهاء العصر الجليدي، عندما أصبحت هذه المنطقة جرداء، باستثناء بقع ضيقة من الأراضي الخضراء على ضفاف الأنهر وتجمع المياه. وفي مثل هذه المناطق المحصورة تجمع الصيادون الرحل ليجدوا في النهاية أن توفر الشعير، وزراعته بعد ذلك في مكان واحد مثلا، هو أكثر جدوى من التنقل والترحال الدائم، ليبدأ بعد ذلك تكاثر السكان، مع ولادة المزيد من الأطفال الذين يتطلبون غذاء ورعاية مستمرة، والذين سيوفرون لاحقا المزيد من الأيدي العاملة في الحقول. ومع الزراعة طبعا انتعشت صناعة الحرفيات، والنجارة، وصناعة الفخار والخزفيات، ومعها تطورت النشاطات المختلفة والحياة الاجتماعية. * حياة فكرية غنية * وبدأت هذه المنطقة تجذب إليها الأنظار والمهاجرين لتزدهر أكثر فأكثر. والدليل على ذلك أن المنقبين عثروا على المزيد من أسباب الحياة الفكرية والثقافية المتطورة. كما أن الأبنية التي جرى التنقيب عنها كانت واسعة ومعقدة، رغم قدمها الموغل في التاريخ. كذلك شرع السكان هناك، حتى منذ 11000 سنة خلت، بالتعامل مع الحيوانات والمواشي، وأهمها الغنم وتربيتها، مع الاعتماد أيضا في الوقت ذاته على صيد الحيوانات البرية. وهذا ما حدث في أوروبا، وإن لم يكن قديما جدا كما حصل في الشرق. وشرع علماء الآثار يعتمدون على هذه المكتشفات التي تمت في الشرق الأدنى لتسليط الأضواء على كيفية نشوء المجتمعات والمدن والحضارات، حتى في العالم الغربي بحيث أخذوا ما وجدوه في الشرق مثالا لدراسة تطور الحياة والمجتمع في الغرب أيضا. وقرب نهر الفرات في سوريا عثر المكتشفون الفرنسيون على ثلاث من القرى التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث، وهي «جا دي»، و«تل عبر»، و«جرف الأحمر». وكان من الواضح أنها مستوطنات دائمة، وليست مواقع مؤقتة، فبيوتها واسعة مزينة، وكأنها نتيجة ثقافة شعائرية متطورة. ومع الأحداث الحالية حاليا في سوريا، لم يتمكن علماء الآثار من مواصلة التنقيبات والتوسع بها، لكنهم وجدوا في قرية «جرف الأحمر» بقايا متفحمة من الحبوب في قدور للطهي، فضلا عن مواقدها. وكانت هذه الحبوب عبارة عن تشكيلة منوعة من العدس البري وغيره، التي جرى تجميعها، فضلا عن محاصيل جرى استيرادها من النوع الذي لا ينمو عادة في هذه المنطقة، والتي جرى لاحقا زراعتها محليا. النقطة الأخرى المهمة أيضا إنهم شرعوا في تأسيس مجتمعهم المعقد المتطور هذا حتى قبل زراعة هذه المحاصيل. والمسرح المكتشف في «وادي فيمان» في الأردن الذي نقب عنه ميثين لأول مرة في عام 2010، له قصة مشابهة تقع إلى الجنوب جدا قرب نهر الفرات، حيث تنبسط أرضية اكتشفت أخيرا على مساحة 400 متر مربع، وهي واحدة من أقدم الإنشاءات أيضا إيغالا في التاريخ، ومحاطة أيضا بدائرة من الغرف الأخرى، التي يعتقد ميثين أنها كانت ورش عمل. وقدر الخبراء أن الموقع يعود إلى 11600 سنة خلت، أي في فجر «العصر الحجري الحديث». وعثر ميثين في الطبقات السفلى القديمة من الموقع هذا على أنواع من التين البري، والشعير، والفستق، مما يعني أن سكانه الأوائل هم من الصيادين. والأمر الذي حير ميثين أن الموقع هذا يقع على مسافة مئات الكيلومترات بعيدا عن المواقع الأخرى، مما يعني أن مجتمعا متطورا تكون هناك أيضا على «شرق» متسع الأرجاء. وباتت هذه المكتشفات تساعد الباحثين على إعادة كتابة التاريخ الذي نعرفه، وخصوصا ما يتصل بـ«العصر الحجري الحديث»، وإن كانت لا تزال هنالك ثغرات واسعة ينبغي ملؤها، خصوصا وأن العلماء عثروا في تنقيباتهم حول بحيرة طبرية (بحر الجليل سابقا) وفي الأردن، على بقايا أكواخ خشبية وطينية يعود عهدها إلى 20 ألف سنة مضت.