الأخلاق في حدها الأدنى هي المصلحة وفي حدها الأعلى هي الحق، لكن الأخلاق لا تتجزأ ولا تتأجل. تتعرض أخلاقنا لصدمات متتالية أفقدت الكثيرين الثقة بالكثير من قناعاتهم وبمن حولهم وحتى بالإنسانية. في كل مرة وبعد كل سقوط أخلاقي وقيمي يمارسه المتطرفون، نعتقد أنه الأسوأ و الأخير لاعتقادنا أنه لم يعد في جعبة الإرهاب أبشع ممارسة مما ارتكبه، لكن الإرهاب لا يزال يفاجئنا بالمزيد من الفظاعات النوعية وغير المسبوقة تاريخيا وجغرافيا. ففي الأسبوع الماضي أمسك العالم بأنفاسه وهو يتابع مشاهد إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا بالنار، وكأنه يجهِز على ما تبقى من أخلاق وقيم بشرية فضلا عن أخلاق وقيم الإسلام والمسلمين. هذه الممارسات المفرطة باللا إنسانية واللا أخلاقية لا يمكن أن تكون تطرفا، ولا يمكن أن نصفها بالتطرف، فحتى التطرف له قاع أخلاقي وسقف في أهدافه والتطرف في الغالب هو ردة فعل ضد تطرف آخر في المقابل، فهل هناك تطرف للتطرف؟ فإذا كانت داعش وأخواتها منتجا إسلامويا، هل يجوز القول بأنه تطرف إسلاموي يميني ضد التطرف الإسلاموي اليساري؟ وأين هو اليسار الإسلاموي في هذا؟ وهل يجوز القول بأن داعش وأخواتها تطرف سني ضد التطرف الشيعي والمذهبي والطائفي غير سني؟ فهل يستقيم الحديث عن أي مشروع دون أن يتمتع بالحد الأدنى من الأخلاق؟. وإذا كانت داعش وأخواتها منتجا وكائنا غربيا، تم ابتكاره ليجتمع تحت لوائه متطرفو العالم كلهم وفي مكان واحد فتتخلص دول من متطرفيها من خلال هجرتهم أو تهجيرهم إلى وطن (دولة الخلافة) التي يحلمون بها وتهيئة كل السبل لمساعدته عالميا وإقليميا في إقامة «خلافته» مثلما تخلص العالم من اليهود المتطرفين صهيونيا في إقامة كيان لهم في فلسطين حيث تمت هجرتهم أو تهجيرهم إليها لتكون وطنا للصهاينة فيشقى بهم الفلسطينيون وينام هو قرير العين هانيها؟ فهل يتطلب هذا المشروع أو هذا السيناريو من داعش أخلاقا حتى بحده الأدنى؟ وإذا كانت داعش وأخواتها مشروعا استخباريا وقتيا، تمت المزاوجة فيه بين عقيدتين اثنتين أو ولائين اثنين: ولاء قيادات التنظيمات وولاء البسطاء لأجهزة قيادات تابعة لأجهزة استخبارات يرمي لإزالة حدود (سايكوس بيكو) في المنطقة وإعادة تشكيل حدودها وتقسيمها على أساس عرقي أو مذهبي وطائفي، هل يستقيم الحديث عن الأخلاق والحق في هذا المشروع؟ وإذا كانت داعش وأخواتها مشروعا إسرائيليا، يتناغم مع طموح الإسرائيليين بإقامة دولة يهودية مبررة، من خلال تقسيم المنطقة إلى دول طائفية و مذهبية وعرقية، ويتماهى مع السياسات الأمنية الإسرائيلية الرامية لإقامة مناطق آمنة وإيجاد مليشيات تحمي إسرائيل على غرار جيش لحد اللبناني إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وهو الدور الذي يبدو أن منظمة النصرة تقوم به بشكل معلن في الجولان الواقع تحت سيطرة الدولة السورية وصولا إلى الحدود اللبنانية. فهل هذا المشروع يتطلب من داعش وأخواتها مراعاة أخلاقية خاصة مع الأخذ بالإعتبار البعد المؤقت للمشروع؟. يمكن فهم انعدام الإنسانية والأخلاقية للمنظمات الإرهابية على اختلاف مسمياتها، بتماديها بتعذيب البشر والإمعان بالقتل البشع للبشر، وسبي النساء وتجنيد الأطفال وتدمير وسائل الحياة والتدمير الممنهج للدول بأنه نابع من أن تلك المنظمات لا تمثل نفسها وأن ليس لها دين أو مذهب أو قومية أو فكر أو ثقافة، ولا يهمها كل تلك الانتماءات وهي لذلك غير معنية بما يمت للأخلاق والقيم والإنسانية بصلة. يبقى السؤال: إذن لماذا تحاول داعش أن تضفي بعدا شرعيا على ممارساتها وسلوكياتها حتى الشاذ منها بما في ذلك جريمة حرقها للطيار الأردني وسبيِ النساء وبيع الأطفال والتفنن بأنواع الذبح والتنكيل والتمثيل؟ السبب هو أن تلك المنظمات تسودها عقليتان: عقلية القيادة وهؤلاء يعرفون اللعبة ويؤدونها كما طلب إليهم كمقاولين، وعليهم أن يضللوا الفئة الثانية البسطاء، وهؤلاء هم وقود الحرب وحطبها فهم يعتقدون فعلا أنهم في حالة جهاد، ويتم استغلالهم أبشع استغلال وهم من كل دول العالم وخاصة الدول العربية ينفذون ما يطلب منهم دون مناقشة أو أسئلة، وشهادات الفارين منهم تؤكد بشاعة الاستغلال من قيادات المنظمات لهؤلاء البسطاء الفارين من قبضة المنظمات. إنني لن أتفاجأ لو أعلنت داعش موافقتها على أي قرار أممي لا تقبل ولن تقبل به الدول العربية والإسلامية، ولا أستبعد أن يتم استغلال هذه الأخلاقيات من الرأسمالية اليمينية لتحقيق مطالب يستحيل قبولها أو حتى مناقشتها عربيا وإسلاميا. إن أقصى اليمين هو أقرب نقطة لأقصى اليسار، وكلما بعدت المواقف، عن محليتها اقتربت من عولمتها، عندها لا يكون اليمين يمينا ولا اليسار يسارا.