الضجة التي رافقت تحرير كوباني أقل من نظيرتها التي رافقت بدء عمليات الحلفاء الجوية التي ساندت مقاتلي المدينة. صور المقاتلات الكرديات، كنقيض لملثمي «داعش»، لم تملأ الشاشات مثلما كان الأمر في بدء الحملة. الحق أن الانتصار أتى متأخراً، فلم يكن سريعاً وخاطفاً على نحو الزخم الإعلامي الأول، والحلف ضد «داعش» لم يتقدم على النحو «التلفزيوني» المأمول، التقدم البطيء بطبيعته غير مغر إعلامياً، ولا يتناسب مع ميزان القوى بين الطرفين. وكما كان متوقعاً، أدت كوباني وظيفتها وانتهى الأمر، لتعود مدينة صغيرة منسية في الشمال السوري، ولتكون في منزلة ملتبسة بين الحرية التامة والتبعية للنظام السوري. فالحزب الذي تسيطر قواته على المدينة لا تُعرف حتى الآن توجهاته المستقبلية، وفي أوج المواجهة مع «داعش» والاستعانة بقوات الحلفاء لم يصدر عنه موقف جذري إزاء نظام الأسد. هذه هي حال المناطق الكردية في سورية عموماً، حيث أعلن الأوجلانيون صيغة من الإدارة الذاتية لم يعترف بها النظام، ولم تباشر قواته العمل ضدها، وهي صيغة بقدر «مرونتها» الظاهرة لا تطرح أفقاً مستقبلياً للقضية الكردية في سورية، وتترك الباب مفتوحاً بانتظار مآلات الوضع السوري برمته، بل إن أغلب الظنون يتجه إلى أن احتمالاتها الراديكالية رهن بانتصار المعارضة لا ببقاء النظام. التحالف الدولي ضد «داعش» لم يؤدّ دوراً سياسياً إيجابياً في التقريب بين المعارضة العربية والأكراد، فـ «اصطفاء» كوباني من بين المناطق كافة التي يسيطر عليها «داعش» بدا ميزة مجانية حصل عليها حزب الاتحاد الديموقراطي (ب. ي. د) الذي طالما دان زعيمه أداء المعارضة العربية من دون توجيه إدانات مماثلة للنظام. وأكثر من ذلك، دافع في مناسبات عدة عن النظام أمام وسائل الإعلام الأجنبية، متبنياً روايته عن المتطرفين والإرهاب التكفيري الذي يواجهه. أيضاً، انتقاء كوباني لم يقدّم حافزاً للمعارضة كي تطور أداءها بما يلائم حرب التحالف، إذ كان واضحاً منذ البداية أن مناسبة كوباني لن تتكرر، أما المشاركة الرمزية من مقاتلين عرب ينتمون إلى بعض فصائل «الجيش الحر» فأتت توسلاً لدعم التحالف، ولم تؤخذ بجدية من الأخير أو من المقاتلين الأكراد، أي أنها منذ البداية لم تكن حالة يُبنى عليها من أي طرف. إجمالاً، يبقى نصر التحالف في كوباني هزيلاً، لا لتأخره فحسب وإنما لأنه لن يكون فاتحة لتكرار التجربة في مدن سورية أخرى. المعارضة بشقها العربي مع تنظيمات كردية أخرى خسرت المعركة، لأن الانتصار دان أخيراً لقوة الأمر الواقع متمثلة بقوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي. محاولة سلطة كردستان العراق المشاركة، من خلال قوات البيشمركة، لم تحسن موقعها السياسي ضمن الصراع الكردي - الكردي في سورية، ولم تفلح في دفع حزب الاتحاد الديموقراطي أبعد عن النظام. على ذلك، لا أفق للاستفادة من تجربة كردستان العراق، لا على صعيد توحيد الجهد الكردي، ولا على صعيد احتواء المناطق الكردية السورية الجهد المعارض ضد النظام، كما حصل في كثير من المناسبات أثناء حكم البعث العراقي. على الصعيد الكردي، المعلومات المتواترة بين النشطاء الأكراد لا تبشّر بتغير في أداء حزب الاتحاد الديموقراطي ووحدات الحماية الشعبية التابعة له، لجهة استفراده بالسيطرة، وصولاً إلى قمع الأحزاب الكردية الأخرى وأنصارها، الأمر الذي حدث مرات كثيرة من قبل وفي الكثير من المناطق الكردية. إلا أن أغرب الدعوات أتت من مثقفين أكراد من أجل الحفاظ على دمار كوباني كشاهد على إجرام «داعش»، أسوة باستغلال نظام البعث دمار القنيطرة كدليل على ما كان يسمى وحشية العدو الصهيوني. لكن هذه الدعوة تُضمر أمراً واقعاً، هو استبعاد عودة النازحين من أهالي كوباني إليها حالياً، ومن المعلوم أن عودة النازحين تكون أبطأ عادة من النزوح نفسه، ما لم تتوافر الإرادة السياسية للسلطة مقرونة بالقدرة على إعادة الإعمار وتوفير سبل العيش. من هذه الناحية، ربما يختلف ما قبل كوباني عما بعدها، إذ نكون أمام حالة مشابهة لحال الكثير من المناطق التي دمرها النظام. بعيداً من أزمات التحالف، وربما تهافته، كان ما قبل كوباني سيختلف عما بعدها لو توافرت النوايا عند أطراف عدة معنية بها. المعارضة السورية «العربية» تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية، وهنا يحضر الثقل التركي الضاغط عليها. فهي منقسمة بين معارضة تناصب حكومة أردوغان العداء، بسبب معاداتها المعارضة التي تتخذ من تركيا مقراً لها وأيضاً بسبب اختلافها مع موقف أردوغان «الراديكالي» من النظام السوري. القسم الثاني من المعارضة لا يخفى تأثره بالموقف التركي، بخاصة لجهة المخاوف التركية من المسألة الكردية، وذلك من أكبر العقبات التي تحول بينه وبين أكبر تنظيم مسيطر على الساحة الكردية. أيضاً، من الجهة الكردية، يكاد يكون العداء التاريخي لتركيا أكبر من العداء للبعث السوري، على قاعدة عدم تبلور قضية كردية سورية مستقلة عن المركزين العراقي والتركي، بل إن العداء للبعث السوري كان في كثير من الأحيان تفصيلاً ضمن العداء الأكبر للبعث العراقي. يُذكر أن آلاف الشابات والشباب من الأكراد السوريين عاشوا التجربة الميدانية في تركيا والعراق، على خلفية انتمائهم لحزب العمال الكردستاني، فتنقلوا بين معاقله في جبال قنديل العراقية وساحات المعارك في كردستان التركية، واستشهد عدد كبير منهم، قبل إعلان أوجلان الهدنة. هذه الحساسية الكردية لم تكن معروفة، أو مفهومة، على نطاق واسع من المعارضة السورية، ومن التقى منها مع الأكراد على العداء لأردوغان ليس أفضل تفهماً للمسألة الكردية ككل. المشكلة في أطراف المعارضة السورية كلها أنها لم تؤصّل فهماً استراتيجياً واضحاً للمسألة الكردية، والمشكلة الإجرائية التي برزت مع الثورة أنها لم تتمكن من لعب دور الوسيط بين الأكراد والحكومة التركية، بدل موقعي العداء التام لها أو ما يشبه الرضوخ لموقف الأخيرة من الملف الكردي. بالتأكيد، الطرف الكردي السوري ينبغي عليه تحمل مسؤولياته تجاه الجار الأبدي، تركيا، وبمعزل عن التجربة الأوجلانية، لكن أية معارضة سورية ديموقراطية ينبغي عليها التحلي بالشجاعة، إذ لا تستقيم لها المطالبة بحق تقرير المصير لعموم السوريين، بينما تحجبه صراحة أو مواربة عن الأكراد.