×
محافظة المنطقة الشرقية

بعض الفوائد الصحية لتناول الفراولة

صورة الخبر

نعرف ان الجمهور العريض الذي يتعامل مع الأعمال الفنية ويكون هو مستهدَفها الرئيسي، سواء أكانت هذه الأعمال جيدة أو أقل جودة، مقنعة أو أقل اقناعاً، لا يأبه عادة بما يسمى «فلسفة الفن»، مثله في هذا - تماماً - مثل العاشق الذي لن يهمه أبداً أن يأتي اليه شخص ليحدثه ان حبيبته هي، في حقيقة الأمر، مجرد كائن بشري يتألف جسده من هذا المقدار من الماء وهذه الكتلة من الأعصاب والشرايين وهذا الكم من العظام والعضلات والجلد. فنحن نعرف أن العاشق منذ اللحظة التي «يصدق» فيها هذا الكلام الذي يحلل كينونة حبيبته منطقياً وعلمياً بيولوجياً، سيكف، حقاً، عن الاهتمام بها ككائن معشوق لا يدري أحد سر انجذابه الحقيقي اليه. وعلى هذا النحو نفسه، من الواضح أن هاوياً للفن، عفوياً وصادقاً في هوايته، قد لا يعود العمل الفني المحبب اليه، حاملاً لأسرار الابداع والأبعاد الروحية، منذ اللحظة التي يأتي فيها ناقد أو فيلسوف فن أو محلل نفسي، ليجزئ ذلك العمل ويحلل له كل مكوناته ويفسرها. > ومع هذا، لم تكف مسألة فلسفة الفن عن شغل بال النقاد والفلاسفة، حتى النخبة من هواة الفن، الى درجة أن ثمة في المخزون الفكري العالمي، وبالكثير من اللغات، ألوف الكتب والدراسات التي تتصدى لمثل هذه المهمة... حتى وان سلمنا بأن الكتب الانعطافية والمميزة في هذا المجال قليلة العدد... وأن الغريب هو أن هذا القطاع المميز انما حمل دائماً توقيع رجال الفكر، أكثر مما حمل توقيع رجال الفن. ولسنا في حاجة هنا، طبعاً، الى أن نورد أسماء كل المفكرين الذين عالجوا المسألة الفنية على مدى تاريخ الفكر، من أفلاطون وأرسطو الى اندريه مالرو مروراً بهيغل وشيلنغ وحتى لينين وبليخانوف وتروتسكي. ولكن يمكننا التوقف، بين الحين والآخر عند واحد أو آخر من الذين سعوا دائماً الى تفسير الفن وعلاقته بالمبدع والجمهور والمجتمع. ومن هؤلاء الناقد والباحث الفرنسي إيبوليت تين الذي كان واحدا من أبرز الذين حاولوا، في القرن التاسع عشر، أن ينظروا الى البعد الاجتماعي لعملية الابداع الفني، مبعدينها بعض الشيء عن الطابع الفردي الذي يجعل من المبدع نفسه خالق عمله أولاً وأخيراً، بصرف النظر الى حد ما عن العوامل الاجتماعية والجماعية التي يرى تين، مثل غيره، من أصحاب النظرة الميكانيكية الاجتماعية، انها هي مصدر التعبير والخلفية التي انطلاقاً منها يتحرك المبدع مستقياً افكاره ومواضيعه، حيث ان اصحاب هذه النظرة يرون دائماً ان المبدع الفرد لا يكون في نتاجه سوى نوع من الإنعكاس لسيرورة تتجاوزه وتستخدمه في آن معاً. > عبّر إيبوليت تين عن هذا في كتابه اشتهر كثيراً في زمنه ولا يزال يُقرأ ويناقش الى اليوم، «فلسفة الفن» الذي جمع المؤلف في طبعته الأولى عام 1865، سلسلة دروس ومحاضرات كان ألقاها قبل ذلك على طلبته في «مدرسة الفنون الجميلة» في باريس، وسعى فيها، بخاصة الى الحديث عن «طبيعة الانتاج الفني». والحال أن هذه المجموعة من الدروس والمقالات، تجاوز الاهتمام بها في ذلك الحين الأطر الأكاديمية البحت، لتصبح مدار سجالات واسعة بين الكثير من الآراء والتوجهات في هذا المجال، ما جعلها تسجل بداية حقبة طويلة من الاهتمام المتجدد بالانتاج الفني في فرنسا، بعدما كان هذا الاهتمام سائداً في الفكر الألماني ويكاد يكون وقفاً عليه، طوال الحقبة السابقة. ولقد كان الفارق بين الحيزين الجغرافيين هذين، في التعامل مع المسألة الفنية، كبيراً، بل متناقضاً، إذ بقدر ما كان الألمان (هيغل خصوصاً) يدخلون الروح وقضاياها في هذه المسألة الفنية، راح الفرنسيون وعلى رأسهم تين، وسان - بوف يركزون على الأبعاد المادية والميكانيكية في تفسيراتهم، علماً أن المبدع الفرد ظُلم في الحيزين معاً، بحسب فريق ثالث، فكان عليه أن ينتظر عشرات السنين ومئات المؤلفات والمساجلات قبل أن يستعيد مكانته الأساسية (والمتفردة حتى) في سيرورة اللعبة الفنية. > غير أن ما يهمنا في هذا السياق هنا، هو كتاب تين نفسه، لأهميته التاريخية، وطبعاً لكونه يمثل خير تمثيل ذلك التيار الحتمي المكيانيكي الذي سوف يرثه بعض المنظرين الماركسيين من ناحية، والفاشيين من ناحية أخرى، واضعين الفن كله - كسيرورة شعبية بيئوية - في خدمة الايديولوجيا السياسية. ونقول هذا، هنا، من دون أن نعني ان تين كان يتوخى هذا التفسير حين «ابتدع» نظريته الاجتماعية - البيئوية، في قضية الانتاج الفني. > كل ما في الأمر بالنسبة الى «فلسفة الفن» لتين، هو أن كل نتاجات العقل البشري - بما في ذلك الأعمال الفنية - لا يمكن تفسير وجودها وولادتها، مثلما الحال بالنسبة الى كل نتاجات الطبيعة، إلا انطلاقاً من دراسة البيئة التي تنشأ في داخلها. فاللوحة والتمثال والقصيدة، بالنسبة الى تين، نتاجات لا يمكن أن تكون قائمة في ذاتها معزولة. بل انها تدخل في صلب نتاج مؤلفها أولاً، ثم في صلب نتاج المدرسة أو التيار اللذين ينتمي المؤلف اليهما... وبالتالي، في سيرورة «منطقية» في سياق الذهنية العامة المهيمنة على المجتمع الذي ينتمي اليه هذا المؤلف - المبدع عموماَ -. وتين، انطلاقاً من هنا لا يرى لعلم الجمال من مهمة سوى دراسة الأعمال الفنية على ضوء تحديد خلفياتها وأسباب ولادتها الإجتماعية. وعلى هذا الأساس يفترض تين أن نظريته هذه تبدو صالحة لتفسير كل النتاجات الفنية، لدى كل الأمم والبيئات وعلى مدى العصور كلها، ما يحوّل منظومته، بحسب رأي دارسيه الى ما يشبه «علم الأحياء مطبقاً على نتاجات الإنسان لا على نتاجات الطبيعة. بل بالأحرى على نتاجات العقل البشري منظوراً اليها بصفتها نتاجات مواربة، للطبيعة». وتين ينطلق من هنا ليلفت الى أن الطبيعة ليست هي من يخلق المبدعين، بل هي من ينتج الظروف الملائمة، أو المعاكسة، لولادتهم. ولكي يسند نظريته جيداً، يعطي تين مجموعة من الأمثلة التاريخية التي يراها صالحة للتأكيد على ما يذهب اليه: فمثلاً، في العصور الوسطى، حين كان الناس يعيشون وسط الحروب والأوبئة والغزوات، تحت سلطة الأنظمة الاقطاعية وتحت ربقة المجاعات، لم يتمكن الإنسان من انتاج أي أعمال حقيقية. أما لاحقاً حين بدا انتصار المسيحية وأنظمتها على تلك الظروف واضحاً وموحداً للناس ولدت أغاني الفروسية وحكايات الحب، ثم ولدت الهندسة القوطية التي سرعان ما راحت تعم أوروبا بأسرها. > إذاً، على ضوء مثل هذه الأمثلة التاريخية، رسم إيبوليت تين خطة أفكاره التي سيقول الباحثون في ذلك الحين انها مدينة بالكثير الى نظريات اوغست كونت الوضعية في الفلسفة، ما جعل أفكار تين تعتبر من أولى الأفكار الوضعية الأنموذجية مطبقة على علم الجمال. غير ان هذا الانتماء المحترم والفكري المدرسي المكرّس لأفكار تين، لم يمنع الباحثين، في عصره وفي العصور التالية من القول إن نظريته كلها تبدو متهافتة، حتى وان كان الرجل قد أجاد في مجال الربط بين الفن والثقافة عموماً من ناحية، والمجتمع في شكل أعم (منظوراً اليه هنا كبيئة متكاملة) من ناحية ثانية، ذلك أن هذه النظرية تتطلع الى العمل الفني بصفته نتاج ميكانيكية حتمية فيزيائية «منكرة دور الفنان الخالق الفرد نفسه». > ولد إيبوليت تين عام 1828 ومات عام 1893، ما يجعل منه - في امتياز - ابن مرحلة تاريخية شهدت سجالات أساسية حول الكثير من قضايا الفكر والمجتمع والسياسة بالتالي، ما جعل من المنطقي له أن يكون طرفاً في ذلك السجال. وتين عرف في زمنه كأديب ومؤرخ وفيلسوف، ومن كتبه الشهيرة اضافة الى ما ذكرنا: «في العقل» و «تاريخ الأدب الانكليزي» و «فلاسفة فرنسا الكلاسيكيون في القرن التاسع عشر» و «أصول فرنسا المعاصرة» في 12 جزءاً يعيد فيها الاعتبار لفرنسا القديمة على حساب ثورتها وتوجهات تلك الثورة.