خلال الأعوام الخمسة والعشرين الماضية مررنا بإيقاع سريع للتغير في بلداننا، هذه التغيرات أتت مشوشة ومشوهة لعقولنا، متحدية كل علوم المنطق التي عرفناها وبنينا عليها قناعاتنا..، كان أول بداياتها تغير اسم المنطقة العربية لمنطقة الشرق الأوسط.. تلك التغيرات صقعت مراكز التفكير المنظم في عقولنا .. كأن سرعة إيقاعها تبلغنا رسالة غاية في صعوبة الفهم، وهي أن القرار لم يعد قرارنا، وتخطيطنا الذاتي سرق منا، أو هناك من فتح الباب للحرامي وقال له تفضل. ملف حياتنا ومستقبل المنطقة العربية وشعبها صار تتخاطفه قوى محيطة وأخرى بعيدة.. إسرائيل وأمريكا، و تركيا وإيران.. وانتقل الصراع من بين العرب وإسرائيل إلى أن تحمل كل فئة ضدها، وتسير حاملة راية لتحارب جزءاً منها، تركَ الأمور الأساسية للوطن. وإذا كان الاقتصاد ومسيرته عمود الحياة فالجيش عمود الدولة، هذا الصراع صار الجيش عاملا مهما فيه، فاتجهت البنادق للداخل، وأصبح المواطن العادي، لا يدري بأي رصاص يقتل.. أصبحنا حكاية العالم، بينما هناك انهيار حقيقي لنا، ربما لم يعِ الكثيرون حجمه.. بينما يغرق العالم العربي في مشاكله الداخلية حيث كل بلد وخاصة بلدان الربيع العربي حلت بها لعنة غريبة، هذه اللعنة التي يصعب تعريفها ما لم نرتكز على المعطيات التي مرت وأسست لها عبر الخمس والعشرين سنة الماضية، وربما نعود أكثر للحرب العراقية - الإيرانية وتبعاتها، ومن ثم إفرازاتها وأولها المصيبة التي حدثت بين العراق والكويت، وهذه التي فتحت أبواب عالمنا العربي للغرب، ولمن يخطف الملف قبل الآخر، فبدلا من كسب صداقات ومؤيدين لقضيتنا العربية الأساسية، وقعنا في بحر دخلنا لجته إما غباء ضمن حماس أخذنا بعيدا، أو عبر الدبابات التي مرت من هنا وهناك.. وهكذا تراجعت أولويات عالمنا العربي، بل غدا بعضها يعتبر بقاءه حياً ليوم هو مكسب.. الذي يؤلم أن دور العقلاء والذين يعرفون جيدا في اللعبة العالمية تراجع إما ذعرا مما يحيط أو ضاع صوته وسط ضجيح آلات التهييج .. تلك الآلات التي وجهتها سياسة فرّق تسد.. هذا المبدأ انحاز له طواعية أغلب المواطنين العربي للأسف الشديد، فوصل لدرجة قبول ما لا يقبله سابقا. ولعل المشكلة الأعظم، هي أن النقود العربية صارت فيما حولنا وبالاً علينا، فالزعيق من المحطات المحسوبة على العالم العربي أصبحت تدير دفة الأحداث نيابة عن المستفيد من وضعنا في حالات الفوضى.. هذه الفوضى التي من خلالها تنمو وتزدهر كائنات غريبة، تستغل ضعف المناعة الوطنية لتنشر مخالبها، عبر الطائفية، تارة وعبر الفساد تارات كثيرة في الفوضى التي تعم والتي تأكل في طريقها الكثير من المقدرات الوطنية والوشائج المجتمعية لدى الأمة ككل.. وينتشر في الوقت ذاته الضعف الإخلاقي والتحطيم البيئي لما حول الفرد العربي.. كلنا كعرب خاسرون مهما كانت أوطاننا، فحينما استغلت إيران دخول الأمريكان للعراق، فتسيّدت فيه، وتركيا بدأت محاولاتها لكن لديها مشاكلها التي ألهتها ولو مؤقتا عن دور تلعبه.. تسيدت إسرائيل بالساحة وتفردت، وجعلت مواجهة الصراع معها، يتنحى لتكون هناك أحقاد وثارات وتصفية حسابات عربية - عربية، أو في الوطن الواحد. سبق أن كتبتُ كثيرا عن الدوامة التي دخلناها منذ الحرب العراقية - الإيرانية، المشكلة أن الدوامة تسارعت في حركتها كثيرا، فضاعت أوطان وستلحقها أخرى بفوضى لن تنتهي وستخلق فيما تخلق عنفاً يتراكم ويتجدد، إن لم يتدارك ذلك وسريعا لإبطاء حركة الدوامة، لعل ذلك يمهد لإيقافها..