باريس: ميشال أبو نجم بروكسل: عبد الله مصطفى بعد بداية باهتة وانتقادات لاذعة وجهت لها، منذ أيامها الأولى، بدأت خطوات البارونة كاثرين أشتون، المفوضة الأوروبية العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية،، تترسخ أكثر فأكثر، وحققت نجاحات لم تكن في حسبان منتقديها، وها هي اليوم تغوص في ملفات عديدة، مرورا بملف السلام في الشرق الأوسط، والقضية اللبنانية، وأخيرا دخلت على خط الأزمة المصرية، محققة بعض الانفراجات. وبعد أربعين يوما تكون البارونة المثيرة للجدل أمضت أربع سنوات على رأس الدبلوماسية الأوروبية. وحتى الآن لا أحد يعرف ما إذا كانت تحلم بولاية جديدة عند انتهاء مدة انتدابها الأولى خريف العام المقبل، أم لا. لكن يبدو أن كثيرين من الساسة الأوروبيين يحلمون باحتلال مقعدها. وأول من كشف عن طموحاته وزير خارجية بولندا رادوسلاو سيكورسكي الذي قال في تصريحات صحيفة إنه كرس الصيف المنصرم لرفع مستوى تمكنه من اللغة الفرنسية التي يلم بها إلماما ليس إلا. وهذا الاهتمام بخلافة أشتون يشير إلى أن المنصب، رغم الصعوبات، فيه ما يغري، مما يعني أن «وزيرة خارجية أوروبا» ربما تكون قد أصابت بعض النجاح وأنجزت جانبا من المهمة التي انتخبت من أجلها. فما بين بداياتها «الباهتة» على رأس الدبلوماسية الأوروبية وما وصلت إليه الآن فرق كبير سعت «الشرق الأوسط» للتعرف إليه عن قرب. ولقياس المسافة التي اجتازتها البارونة كاثرين أشتون «المفوضة الأوروبية العليا للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية» منذ انتخابها لهذا المنصب يوم الخميس 19 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2009، لا بد من الرجوع إلى ما كتبته الصحافة الأوروبية بشأنها في اليوم التالي لانتخابها. صحيفة «ألموندو» الإسبانية تساءلت عن معنى اختيار «هذين المجهولين في أوروبا والأكثر نكرة في العالم»، وتعني أشتون وفان رومبوي، الذي انتخب في اليوم نفسه رئيسا للاتحاد الأوروبي. وذهبت صحيفة «ألبايس» أبعد من ذلك معربة عن خيبتها من اختيار «وجهين شاحبين لتجسيد أوروبا الجديدة» التي ولدت من رحم معاهدة لشبونة. ولم تكن الصحافة الألمانية أرحم حالا، فصحيفة «فرانكفورتر ألماين زيتونغ» لم تستر «خيبتها» من رؤية هذين الشخصين على رأس الاتحاد الأوروبي المكون وقتها من 27 بلدا، فيما عبرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية عن «ذهولها إزاء اختيار شخصيتين نكرتين مدعوتين لتمثيل أوروبا على المسرح العالمي». ورأت «الغارديان» أنه مع هذا الخيار «تبخرت كل آمال الأوروبيين في جعل أوروبا تجلس إلى طاولة الكبار أو إلى طاولة مجموعة الاثنين الكبار» أي واشنطن وبكين. ووجهت بدورها صحيفة «ديلي تلغراف» سهامها إلى أشتون شخصيا مشيرة إلى «انعدام خبرتها في الحقل الدبلوماسي»، وهي المدعوة لأن تكون «صوت أوروبا في العالم». وبحسب الصحيفة الأخيرة، فإن اختيار أشتون يستجيب لمطلب أوروبي هو رفض نقل الصلاحيات «الوطنية» إلى بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي. ولم تحد الصحف الفرنسية عن هذا الخط. وتساءلت صحيفة «لوباريزيان» عما إذا كان لفان رومبوي وأشتون «الوزن الكافي» لتمثيل أوروبا وإعطاء مركز ودور لهذين المنصبين الجديدين. فيما فسرت صحيفة «ليبراسيون» خيار الأوروبيين برغبتهم في تلافي أن «يكسف» المسؤولان الجديدان القادة أو الوزراء الأوروبيين، مما يعكس رغبتهم في شخصين «يملآن الكرسيين الفارغين لا غير». ما قالته الصحف الأوروبية وأجمعت عليه عن البارونة أشتون لم يكن من باب التجني. فـ«كاتي» كما يسميها وزراء الخارجية لم تكن معروفة خارج حدود بلادها. ووصولها إلى المنصب الذي يوفر لها دخلا سنويا هو الأعلى من بين كل الساسة في العالم (328 ألف جنيه إسترليني إضافة إلى بدل سكن وسيارة وسائق والنثريات الأخرى) يعود في درجة كبيرة منه إلى فشل توني بلير في الوصول إلى منصب رئيس الاتحاد، مما دفع القادة الأوروبيين إلى تسمية أشتون كـ«جائزة ترضية» لبريطانيا. وما ضاعف حظوظها، وهنا المفارقة، أن أشتون لم تكن ملمة بالدبلوماسية لأنها لم يسبق لها أن تبوأت في بلادها ولا خارجها أي منصب من الدرجة الأولى يؤهلها لتقود السياسة الخارجية الأوروبية. ولذا فإن «حسنتها» الأولى أنها لن تكون قادرة على احتلال الموقع الأول، وبالتالي لن تدفع إلى الظل وزراء الخارجية الذين بينهم أسماء وشخصيات قوية خصوصا في كبريات البلدان الأوروبية. خلال جلسة عقدها البرلمان الأوروبي في الثاني من فبراير (شباط) 2011، تعرضت أشتون لانتقادات لاذعة من البرلمانيين الأوروبيين بسبب غيابها عن ساحة بدايات «الربيع العربي» بعد الإطاحة بالنظامين التونسي والمصري. واتهمت أشتون بـ«الجمود» و«الشلل» إزاء التغييرات التي عرفها العالم العربي. ولم يتردد النائب جوزيف دول، رئيس المجموعة النيابية الرئيسية (الحزب الشعبي الأوروبي اليميني) في الحديث عن «خطأ الخيار». وقال دول للقناة التلفزيونية التابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي «أعتقد أننا ارتكبنا خطأ في اختيار أشتون. أعرف أنه ليس من السهل التحدث باسم الـ27 (بلدا أوروبيا)، لكني أعتبر أننا نحتاج لشخصية تتمتع بقبضة فولاذية وبحضور قوي. يتعين على أوروبا أن تروج للديمقراطية». أما رئيس المجموعة الاشتراكية في البرلمان مارتن شولتز فإنه لم ينبر للدفاع عن أشتون رغم انتمائها السياسي إلى العائلة نفسها. واعتبر شولتز أن مفوضة الشؤون الخارجية «لا تؤمن سوى خدمات الحد الأدنى»، داعيا إياها إلى «التحرك». أما النواب «الخضر» في البرلمان فقد كانوا أكثر عدائية تجاه أشتون، إذ قالت ممثلتهم هيلين فلوتر إن «صدقية الاتحاد الأوروبي أصيبت في الصميم لأننا لم نكن على موعد مع التغييرات التاريخية التي تعرفها المنطقة». الواقع، كما يعترف بذلك العديد من المراقبين، أن أشتون وصلت إلى منصبها وهي تجر وراءها مجموعة من العقبات ليس أقلها ثقلا غياب السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة التي كان يفترض بالبارونة البريطانية أن تكون المعبر عنها. فالعواصم الأوروبية خصوصا كبرياتها ترفض التخلي عن جزء من سيادتها الوطنية، حيث إن السياسة الخارجية تعكس بشكل كبير المصالح الوطنية لكل بلد. ولذا، من الصعب التوفيق بين كل هذه المصالح دفعة واحدة. وبسبب هذا الوضع فإن هامش المناورة المتاح لأشتون ضيق للغاية، ولا تستطيع الحراك إلا ضمن «الخطوط الحمراء» التي تضعها الدول الأعضاء، وبالتالي يتعين عليها البحث عما يسميه دبلوماسي بريطاني تحدثت إليه «الشرق الأوسط» عن «إجماع الحد الأدنى». والحال أن العمل بهذه القاعدة والسعي الدائم لإيجاد قواسم مشتركة بين 27 بلدا ليس بالمهمة السهلة، ويتطلب الكثير من الخيال والمهارة الدبلوماسية. وعاهته الكبرى أنه يظهر الاتحاد الأوروبي مشلولا وعاجزا عن الحركة أو الأسوأ من ذلك، منقسما على نفسه. لعل أوضح مثال على تشتت الصف الأوروبي الانقسامات التي ظهرت بشأن ليبيا قبيل وأثناء العملية العسكرية التي أفضت إلى سقوط نظام العقيد القذافي، ففرنسا ومعها بريطانيا كانتا تدفعان في شهر مارس (آذار) 2011 نحو التدخل العسكري المباشر في ليبيا، فيما ألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية كبرى عارضت الدخول في مغامرة عسكرية. أما أكثرية دول الاتحاد فإنها لم تعبر عن موقف، وفضلت البقاء على الحياد. وفي الأزمة السورية عادت الانقسامات الأوروبية إلى الواجهة وبالصورة عينها، فباريس ولندن دفعتا بداية باتجاه رفع الحظر المفروض على توصيل السلاح إلى المعارضة السورية، الأمر الذي عارضته ألمانيا والنمسا وبلجيكا واليونان. ثم تطور الموقف الأوروبي عقب الهجوم الكيماوي الذي استهدف غوطة دمشق، إذ أعربت باريس ولندن عن عزمهما التدخل العسكري، قبل أن يجهض البرلمان البريطاني مشاريع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، فيما بقي الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند على عزمه. يقول مايكل مان، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في المفوضية الأوروبية في بروكسل، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «أشتون اكتسبت سمعة طيبة ومستحقة كمفاوضة ممتازة ووسيط بارع، وقائد محنك للاجتماعات، واستحقت إشادة العديد من الشخصيات الدولية، ولعل دورها في إنجاح الحوار بين صربيا وكوسوفو والتوصل لاتفاق تاريخي أبرز الدلائل على ذلك، فضلا عن قيادتها للمجموعة الدولية في المحادثات مع إيران حول الملف النووي، ومن خلالها أظهرت قدرا كبيرا من الصبر والمهارة». ويضيف مان «نجحت أشتون كثيرا في تخفيف حدة الأزمة الناشبة الآن في مصر، وهي لا تزال المحاور الوحيد الذي أعربت جميع الأطراف المصرية عن استعدادها للتعامل معه». ويقول مصدر دبلوماسي فرنسي رفيع المستوى خبر أشتون عن قرب وعمل معها، وما زال، على العديد من الملفات الخارجية المعقدة، وأهمها الملف النووي الإيراني، إنه كان «سعيدا» في العمل مع أشتون خلال السنوات الأربع المنقضية، ويصفها بأنها «حققت تقدما رائعا» لأنها بنت «الوسيلة الدبلوماسية الأوروبية» من لا شيء، ونجحت في تحسين مناهج العمل وبلورة آلية لتنسيق المواقف بين الأوروبيين إلى درجة أن وزراء الخارجية أنفسهم «أخذوا يتقبلونها ويعترفون بدورها».. الأمر الذي لم يكن مؤكدا في البداية. ومن «نجاحات» أشتون، وفق الدبلوماسي الفرنسي، أنها حققت «الانسجام» في العمل بين المفوضية الأوروبية من جهة والمجلس الأوروبي «الوزاري» من جهة أخرى، فضلا عن أنها «أعطت وجها» يجسد الدبلوماسية الأوروبية على المستوى العالمي. وفي خانة النجاحات التي حققتها، يشير الدبلوماسي الفرنسي إلى أربعة أمور أساسية، أولها بلورة الاتفاق بين صربيا وكوسوفو، وهو الملف الذي احتضنته ورافقته حتى توصل الطرفان إلى اتفاق وضع حدا للنزاع بينهما. وثاني النجاحات أنها استطاعت المحافظة على الانسجام والتوافق بين مجموعة 5 زائد واحد (الدول الخمس دائمة العضوية وألمانيا) في عملية التفاوض مع إيران حول ملفها النووي؛ إذ ليس من السهل التوفيق بين روسيا والصين من جهة والمجموعة الغربية من جهة أخرى. وفي الملف الإيراني أيضا، قادت أشتون بنجاح الاتحاد الأوروبي في عملية فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ودبلوماسية على إيران رغم اختلاف المصالح والمواقف بين البلدان الأوروبية. وثالث نجاحات أشتون أنها أفلحت، رغم الانتقادات العنيفة التي تعرضت لها منذ تعيينها، في توفير جهاز دبلوماسي للاتحاد الأوروبي يضم ما لا يقل عن ألفي شخص، إن في المركز في بروكسل أو في البعثات الأوروبية عبر العالم.. ما يعني حقيقة أنه أصبح للاتحاد وزارة خارجية وسفراء وعيون وآذان عبر العالم. أما آخر نجاحات أشتون فيكمن في أنها «أوجدت لنفسها الحيز الحيوي الذي تتحرك ضمنه». بيد أن هذه النجاحات لا يتعين أن تخفي الإخفاقات الأوروبية التي مردها بالدرجة الأولى ليس لشخص أشتون بل لحالة الاتحاد الذي تعوزه سياسة خارجية موحدة ويفتقر للبعد الدفاعي. ولعل أبرز إخفاقاتها فشل اللجنة الرباعية الخاصة بالنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي التي كانت أشتون أحد أطرافها العاملة. والحال أن الرباعية لم تحقق شيئا، كما أن الاتحاد الأوروبي ما زال موزعا على مواقف تتباعد أحيانا كثيرة وتتقارب لماما. فالاتحاد مثلا لم ينجح في بلورة موقف واحد من قبول فلسطين عضوا كامل العضوية في اليونيسكو، كما أنه لم ينجح في منع التطورات الدامية التي حصلت في مصر رغم الزيارات العديدة التي قامت بها إلى القاهرة ولقاءاتها المتكررة مع جميع الأطراف المتصارعة. وبشكل عام، يرى المصدر الفرنسي أن أشتون «تترك الدبلوماسية الأوروبية في حالة أفضل مما كانت عليه حين وصولها»، رغم الشوائب التي يتعين التخلص منها. والبارونة البريطانية ستعود مجددا إلى الأضواء الأسبوع المقبل مع الجولة الجديدة من المحادثات حول الملف النووي الإيراني في جنيف، لعلها، وهي التي تفاوض باسم الست، تنجح في تحقيق اختراق ما في ملف يدور في فراغ منذ سنوات.