لا يسلّم سليم بركات مفاتيح عالمه بسهولة. على قارئ شعره أن يبحث هو بنفسه عن مفاتيح هذا العالم كي يدخله من غير أن يتمكن أصلاً من تشريع أبوابه كلها. في عالم سليم بركات الشعري من الأحجيات والألغاز ما فيه من البروق واللمعات، وجنباته الفسيحة والظليلة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد اجتياز بضع متاهات مرسومة بالسر أو جهاراً. والقارئ وإن كان حصيفاً ومتضلعاً من العربية، يحتاج الى معجم يضعه بالقرب منه ليستعين به أحياناً، حين يعجز عن فهم مفردة أو مترادف هو وليد سليقة الشاعر مقدار ما هو وليد دأبه وتمرسه في اللغة. لكنّ صعوبة الدخول الى عالم بركات لا تقتصر على انتقائيته المعجمية فقط، بل تتعداها الى جزالة السبك في شعره والصنعة المعقدة واللعب في بناء الجمل الشعرية ارتكازاً الى معايير مستنبطة من صميم التراث البلاغي، ناهيك عن انغلاق حقل المفاهيم (السيمانتيك) ووقوعها في كنف الالتباس. في قصيدته الملحمية «سوريا» (دار المدى) لا ينأى صاحب «الجمهرات» بتاتاً عن منابت صُنعته وإن كانت القصيدة «سياسية»، وفق ما يشي عنوانها، وهي قصيدة كانت منتظرة من شاعر عانى باكراً مرارة العيش في ظل نظام البعث، فنفى نفسه أبكرَ ما أمكنه، هو المتحدر من جذور كردية، بل الكردي الأصيل الذي أدرك معنى أن ينتمي إلى أقلية في زمن سعت العروبة، البعثية بخاصة، إلى القضاء على كل نفَس أو روح أو أرومة «أقلوية». شاء بركات أن يكتب قصيدة ملحمية طويلة عن سوريا(ه)، راثياً ما يسميه «البلد» الذي هو بلده المخطوف والمعذب، «البلد» الذي لم يكن «إلا في النشيد المختنق». ولا يتمالك الشاعر عن هجاء هذا «البلد» بصفته بلد القتلة والسفاحين. وفي أحد المقاطع يخاطبه مخاطبة الندّ قائلاً: «يا لك كفراً أيها البلد/ يا لك هضّاً في العظم ورضّاً في اليقين». قصيدة «سوريا» ليست قصيدة سياسية إلا ظاهراً، في الجوهرهي قصيدة ملحمية ذات بعد تكويني، تتقاطع فيها الذات الفردية والذات الجماعية، وفيها تختلط ذاكرة المكان، الجغرافية والأسطورية، وذاكرة «الأقلية»، البعيدة والقريبة. وليست «أنا» الشاعر هنا إلا «نحن» الجماعة، تاريخياً وخرافياً. وعندما يتحدث الشاعر عن نفسه بصفته ضحية فإنما يتحدث عن الجماعة بصفتها ضحية أيضاً. ولعله حين يقول: «أيها البلد كم قُتلتُ؟ كم سأُقتل لأُنجز حيّاً؟»، فهو إنما يقصد في الوقت نفسه الجماعة التي لم تدرك كم مرة قُتلت وكم مرة ستُقتل. الأنا هنا لا يمكنها إلا أن تكون ضمير الجماعة. وليس مستهجناً في هذا «البلد» أن تستدين الحياة من الموت كما يقول الشاعر، «ما تنفقه على الموت» وأن «تُكره الموتى على دفن الأحياء». إنها الحياة التي انتهت «متسكعة» على «أرصفة الموت» بعدما «خارت السماء على ركبتيها». يوغل سليم بركات في استيحاء ما يسميه «آداب القتلى» التي أضحت أمام عينيه وفي مخيلته أشبه بطقوس قتل. فالذبح كما يكتب «ينجز عبوره من السهل إلى الجبل»، بل هو يصف الذبح وكأنه «مأدبة لا ينصرف عنها داخل إلا متخماً». وفي هذا البلد «العيد «بات القتل يُسمّى بـ «أسماء أيامه»، وفيه بدا الخوف صادقاً في وعده، كما يقول، والخراب صادقاً في وعده، والهتك والقتل والنهب والخسف والحقد... وعندما لا يبقى للشاعر (الجماعة) باب ولا نافذة ولا بيت ولا حدائق، يدرك أن «لا عافية» تعيده الى ما كانه، لا «جده الجبل» ولا «جدته الغابة» ولا «إخوته الطرق» ولا «شقيقاته الصخور»... ولا بد هنا من أن يحضر معجم سليم بركات الطبيعي، معجم طبيعة الشمال السوري الذي يتحدّر منه: الطين، الحصاد، الغمام، السماد، الكروم، النحل، القفران، الزيزان، الإجاص... لا تُقرأ قصيدة سليم بركات بسهولة، على رغم ما يتخللها من ظلال وأضواء وبقع خضراء. طرقها، وفق معجمها، لا تخلو من وعورة، ومعارجها تلتف على نفسها حتى ليشعر القارئ أنه في دغل متشابك الأغصان والجذوع. يقرأ ويقرأ وسرعان ما يخونه النَفس وتنقصه الحيلة. إنها طريقة سليم بركات في الصوغ والسبك، في بعثرة الجمل ومعاودة بنائها، في التقديم والتأخير، في إحلال الأسماء محلّ الصفات والإكثار من استخدام الحال حيلة بلاغية. ولا يضيره في أحيان أن يستعيد مفردات باتت نادرة في نصوص الراهن: لا جرم، هيت، هاك، سيّ، واهاً، إيهِ... وعلى غرار قصائده الطويلة ينسج بركات لغته برويّة، متكئاً على الإيقاعات الداخلية الرحبة والأوزان المتحررة من مغاليقها والتفاعيل الحرة والموسيقى النثرية المشبعة بنفسها. إنها صنعة سليم بركات البديعة والرهيبة في آن، صنعته المتجددة ولكن من قلب معطياتها التي باتت راسخة ومن داخل تخومها المرسومة بدقة.