{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}، صدق الله العظيم. نكست الأعلام في غالبية عواصم العالم وبقيت راية لا إله إلا الله ترفرف مرفوعة حيثما ما علت، غير أن قلوب السعوديين والعرب والمسلمين في كل مكان تنكست حزناً على رحيل خادم الحرمين الشريفين تغمده الله بواسع برحمته. كان رحمه الله يعاني من بعض الأعراض الصحية ولكنه بقي يصارع الألم في خدمة شعبه وأمته، ورغم اشتداد العارض عليه تمسك الشعب في رجاء ودعاء بأمل أن يمن الله عليه بالعافية ويعود إلى إطلالته العفوية المعهودة عليهم، فلم يكن أحد من الشعب يصدق أنه في يوماً ما سيفقده، وسيفقده إلى الأبد. فبين الرجاء والخوف جاءت الصدمة قوية على الجميع فلم يكن الفقد لقائد وملك بل لوالد يحس الجميع بقربه منه ويشعر بالاطمئنان والأمان مع وجوده. كان رحمه الله أباً حقيقياً لثلاثين مليون سعودي، وغيرهم من أمة العرب والمسلمين. ولم يفتقد محبوه فقط بل افتقده خصومة أيضاً فبقائه كان أمل لإنهاء الخلافات وحقن الدماء. نعاه رسام حزين برسم وهو يعطي الشعب ظهره مغادراً و متجهاً لشمس غاربة في الأفق محنى لقامة تعباً وتواضعاً كعادته و متكئاً على عصاه وخلفه لوحه كتب عليها «لاتنسوني من دعاكم»، عبارة توديع غاية في الاختصار والتعبير. كل ما كان ينشده دعاء شعبه ورضا ربه. رحمك المولى وأسكنك الفردوس ياعبدالله، فله ما أعطى وله ما أخذ. نعم غربت شمس ملك العرب والمسلمين الذي ملأ العالم حضوراً، فكان الغياب والفقد جللاً بحجم الحضور. سيؤبنك يا عبدالله الفقراء، والمرضى، وسيبكيك اليتامى، وتنعاك الأرامل. رحمك الله وأحسن مثواك وجزاك عنا أجزل الخير الثواب. غرس عبدالله غابة من الإنجازات على كافة الأصعدة، أشجاراً مورقة لم يكتب له أن يرى ثمرتها. وأحسبه رحمه الله تخيلها وحلم برؤيتها ولكن أجل الله كان أسرع. كان يحلم برؤية مئات الآلاف من الشباب الذين ابتعثهم لتحصيل العلم من كافة أصقاع الأرض يعودون ويعملون وينهضون ببلادهم. وكان يحلم برؤية المشاريع الضخمة التي وجه بإنشائها في كل مكان وهي تيسر حياة المواطنين، وكان يحلم برؤية توسعة الحرمين الشريفين منجزة كما أحبها أن تكون يؤمها الحجيج والمعتمرون من كل مكان، ولكنه بإذن الله متوجه لبيت في الجنة أوسع وأرحب مما أحبه لبيت الله ومسجد نبيه. هكذا هم العظماء يزرعون لتحصد الأجيال بعدهم. وقف العالم مندهشاً لبساطة طقوس دفن هذا الرجل العظيم، فهو يدفن في قبر متواضع مثله مثل سائر قبور أفراد الشعب، لا نُصب ولا مزارات. وكان الجميع في الخارج مستغرباً كيف لم تكن هناك مراسم حزن بقدر الحزن الذي خلفه رحيله فوجدوا الجواب فيما لا يعرفوه عن الإسلام، إسلام السماحة والعدالة الذي أراد رحمه الله أن يحاورهم به وليس إسلام الدسائس والمؤامرات التي تحاك من كل حدب وصوب. ولم يصدقوا أعينهم كيف رحل حامي الإسلام بكل بساطة الإسلام. نعم هذا هو من كان يتألم ويحتسب لكل من يسيء للإسلام حتى ولو كان من أبناء المسلمين. نعم ترجل عبدالله، عبدالله الفارس محب الخيل والصحراء، ترجل عن مملكته وهي في أحسن حال. مملكة لديها من المدخرات ما يكفل كرامتها ويسد حاجتها لأعوام عديدة قادمة. فكان قوياً أميناً حافظ على المال العام وصان مكتسبات الوطن. ترجل عن مملكة أُكرم فيها الإنسان وحفظت حقوقه بصرف النظر عن جنسيته أو ملته، وكرمت فيها المرأة و ادخلت إلى أعلى المؤسسات السياسية. ستبقى ذكراك يا خادم الحرمين محفورة في قلوب أفراد شعبك، ولن ينساك الشعب من دعائه مهما غبت عنهم، فسيذكرونك مصلحاً، وصالحاً، وقلباً حانيا. سيرونك في كل مرة يسلكون طريقاً أو يسعون إلى رزق فتحت بابه لهم. عزاؤنا في غروب شمسك ياخادم الحرمين شروق شمس أخيك سلمان الذي رافقك إلى آخر مشوار في حياتك، إلى مثواك حيث نمت قرير العين. فهو كما كان وفياً لك سيبقى وفياً لشعبك. فشعبك بعدك في يد أمينة، فنعم السلف لخير الخلف. وسلمان ليس بالغريب على الحكم والملك، فقد حكم أكثر من نصف المملكة لعقود طويلة خلت، وكان عضيداً ومعيناً لكل أخوته ممن حكموا قبله. خلفك فينا خادماً للحرمين بعدك ومبايعاً من كل شعبك. فخدمة الحرمين تجمع ولا تفرق، ورعاية الأمانة تقرب ولا تبعد. أعان الله سلمان وحفظه وأطال عمره. وحفظ ولي العهد، وولي لولي العهد. وحفظ الله وطننا من كل مكروه ويسر سبل السلام والاستقرار والرخاء.