×
محافظة مكة المكرمة

زوجه تقتل زوجها وتحرقه بالنار

صورة الخبر

قال المتنبيّ :»والقلوبُ بلا عقلِ»، في سياق رثائه ابن سيف الدَّولة، والمعنى أَنّ المرءَ، في ذروة الأَلم والتأثّر، لا يَضَعُ حَدًّا لاشتعاله الدّاخلي. وفي ظنّ هايدغر أَنّ الكائن – هنا هو في الحقيقة، وفي نقيضها، معًا، الأَمر الذي يضعنا أَمام مقولة مونتاني :»أنْ تتفلسف هو أَن تتعلّم كيف تموت...» . فالموت هو الحقيقةُ الأُشغولةُ التي تمنح الوجود معنى. استطردنا، بهذه الطَّريقة، لنصل إلى «صوفي»، بطلة ناتالي الخوري غريب، في روايتها الجديدة «حين تعشق العقول»، وهي طالما عشقت، على أَنّ فلسفتها أنَّها تريدُ أَن تعرف، قبل أَن يفتح الموت بابه. هي في الثّلاثين، عايشت تجارب عدة، قرأت ذاتها، بين لبنان، وأَفريقيا، والهند، وغيرها، باحثة عن الحقيقة، وسَطَ الغربة، وعن الحُبّ في عالم الحقد والعنصريّة، وعن الغاية من الأَديان في عالم التّناقضات، والعنف، والصّراع على كلّ شيء، في الدّنيا، وفي الآخرة. كانت تُكثر من طرح الأَسئلة، حول الزّمان، والإنسان، والمكان، والرّموز، والحبّ، والحياة، والموت- فعل الرَّحمة، ورحلة العقل الشاقّة التي تُصمتُ صوت القلب، لتُصغي إِلى تفكّرات العقل، ولو في مناخ ضبابيّ، يحتاج إِلى رحلة طويلة، لا تقلّ غرائبيَّة عن مغامرة جلجامش وبروميثوس! هكذا، المعرفة تَصبرُ على اليأس، وتَتعالى على الجزئيات، وترتقي فوق المشاعر الخاصّة. إنّ نهر الغانج ينتظرها، والصَّداقة مع مياهه قد تُنتج ما لا يقدر عليه «جواد»، وتأمّل شوارع نيودلهي، وما في أَغرا، وجايبور، وأَمكنة مختلفة، يُساعد على قراءات جديدة للآخر، وللعالم، وعلى انفتاحات جديدة قد تُخرج الكائن، وتحررّه من ثنائية الوجود، ومن أَنانيّة التملّك، على تنوّعه، ومن أَيّ فضاءٍ ضيّق. أَولم تقل البطلة: في السَّفر تَحرُّر، وفي التَّرحّل استقرار؟ وأَمام ﭬـــيشنو، هناك، حَلَا لها التمتّع برؤية الأَزهار، تُقدَّمُ ببراءَة، لا يتسرَّبُ إِليها ذبول، وَتَزيدها الوداعة جمالاً. ولم تتَخلّ عن منطق الأَسئلة، بإِزاءِ أَنماط الإيمان، حول الأرض، ومصير خلاص البشر، مع اختلاف آلهتهم، ومعتقداتهم (ص31). وفي كنيسة روما تساءَلت، وفي معبد « ﭬـــيشنو»، أَيضًا. وقد صدقت حين قالت إنّ الكاميرات، والحوارات الدنيويّة، أَلغت الصّلوات، والسّكينة، في كاتدرائية القديس بطرس، بروما. فما العمل والغرب بمعظمه، تخلّى عن روحه ؟ «صوفي» هذه تغوّر في الذات، وتجعل الأمكنة والمشاهد مجرّد جسر إلى الحقيقة. وأَرتنا، وهي في أَوج قلقها، في ليبيريا، ولبنان، وروما، ونيودلهي، أَنّها تبحث عن العدالة، في ظلّ الظّلم، وعن الحقيقة في ظلّ المظاهر الفانية، وعن الله الحَقّ، وسط البخور والنور، والبشر والحيوانات، والطّبيعة والكواكب، والتّقاليد، والتّباينات الـمُرّة تحت الشّمس. ولئن عايَشَتْ سامي وأبراهام، والهندوسية والبهائية، والمسيحيَّة والإِسلام، وغيرها، فهي ظلّت تكرّر أَين الحقيقة يا ترى؟ وكلٌّ يزعم أَنّه يمتلكها، وهي وحدها، تمتلك الجميع، وتبقى بمنأى عن عقولهم العاشقة، واجتهاداتهم الموجعة! لقد تماهت الكاتبة مع «صوفي»، في هذا المقام، ضمن موقع اللّاانتماء، والبحث عن هويّة في مزيد من الحريّة (ص85)، ولو تراكَم الكلام على الأصول والعقائد والعادات والتقاليد... ومع الحريّة هناك الزّهد، وفيه معنى المعنى! ولئن حاولت «صوفي» أَلاّ تُسقطَ الحبّ ببعده الجسديّ، لكنّ الموقف والرؤية، هنا، جزءٌ من تجربة كليّة، فكريّة-صوفيَّة، تصادق الجسد كما الرّوح، وتبحث عن خلاص الكائن، والحياة. الخلاص، بداءَةً، بالفرح، والجنون، وبالرّوح والجسد :»العقل حالة وعي، وهو الرُّوح، به يعشق الإِنسان، في حالة كيانيّة وجوديَّة لا بُدَّ منها. لكنَّ العقل لطيف في كثيفٍ، حُكمَ عليه العيش فيه، وعشق العقل، لا بُدَّ أن يتجسَّد أَو يتمظهر في محسوس . فالحبّ يـُمارسُ في العقل كما في الجسد» (ص79). ومع ذلك، فالنّظرة الفلسفيَّة تبقى قائمة على صلابة الإرادة، وعشق العقول، لأَنّ «القلوب بلا عقل»، وأَهميَّة الأَجساد أن تعرف كيف تعكس رقيَّ الأَرواح، وبهاءَها، أَن تعرف كيف تنسج مَوتًا للحياة. إنّ الكاتبة ناتالي الخوري غريب روائية لا تقلّ غنًى، وعمقًا، ونورانيّة، عن إليف شافاق، التركية- الفرنسيّة، في «قواعد العشق الأَربعون»، حيث رحلة العرفان، والحثّ على الشّعور الدائم بالرِّضا، مهما بلغت مشقّات الحياة، ومصاعبها، وعلى السَّعي أبدًا نحو الاكتمال، واحترام الكائنات، مهما كان لونها أَو دورها، ومهما كانت هوّيتها. وما لم تكتبه ناتالي يبقى أَبهى، حتمًا، لأَنّها تفاجئ رفاق الطّريق إلى المعرفة والحقيقة، بِسُرج جديدة، مدهشة، تُضيءُ الفَضاء. من هنا توقّعهم المزيد من الإطلالات والإشعاعات، إن شاء الله! على أَن تمطّ الكاتبة النَّفَسَ، وتمنح الفضاء الروائيّ مزيداً من العشق الحارّ والمتخيّل، ومزيداً من الاهتمام بالبناء، وتجديده، ومنحه أَلواناً وإيقاعات تعبّر عن عصرنا وقضايانا. ولا شكّ في أنّ الكاتبة تملك الثقة بالنفس، والطاقات الثقافية، والجرأة على إبداع فضاء جديد لروايتنا العربيّة، بناءً، ودلالات، ورؤى، وديناميّة غير مسبوقة. * شاعر وأكاديمي لبناني