في مارس (آذار) من العام الماضي جاء الرد من «أوفكوم» الهيئة البريطانية المنظمة لعمل وسائل الإعلام، على الشكوى التي قدمت من أكثر من جهة ومنها نواب بريطانيون حول ما تبثه قناة «فدك» الشيعية التي يديرها المطلوب الكويتي الهارب من العدالة ياسر الحبيب، من خطاب كراهية وتحريض على العنف والإرهاب في أوساط الشعوب الإسلامية، فقالت الهيئة إن القناة المسماة «فدك» ملزمة بالامتثال لقواعد «أوفكوم» الصارمة التي تحظر خطب الكراهية في أي برامج يمكن مشاهدتها من قبل مشاهدين بريطانيين أو أوروبيين، غير أنها غير قادرة على وضع أي قيود على ما تبثه هذه المحطة إلى بقية أنحاء العالم، لأن ذلك ليس من اختصاصها.. (ديلي ميل). وفي البحرين سألت صحافية بحرينية السفير الفرنسي حول تعليقه على سوابق لمجلة «شارلي إيبدو» مع الإساءة للأديان «الإسلام والمسيحية» تحت مظلة حرية التعبير، ورسومات سخرية من شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي يؤمن برسالته أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، كيف تعلقون على ذلك؟ - إجابة عن هذا السؤال المهم لأني أفهم أن بعض المؤمنين يرون أن هذا تجاوز للحد أن يتم السماح لرسام كاريكاتير بالسخرية من الرموز الدينية. نحن مرتبطون بشدة بحرية التعبير. وهذا من أسس المجتمع والجمهورية الفرنسية، وحرية التعبير لا يمكن تقييدها أو تهديدها لأي سبب. (جريدة «الأيام» الأحد 18 يناير/ كانون الثاني). الخارجية الفرنسية قبل أيام ناشدت حكومة البحرين بالحوار مع أمين عام جمعية الوفاق الإسلامية المحال للمحاكمة، إثر تهم جنائية باعتبار أنه مجرد ناشط سياسي، ونشاطه يقتصر على (التعبير) السلمي وفق وزارة الخارجية الفرنسية، رغم أن خطاب المذكور وحراكه حافل بألف دليل على دوره في تبرير الإرهاب والتحريض عليه وتمجيده، فهو الذي قال: «بعد الانتخابات لا أضمن لكم السلمية» وهو الذي ذكر الإخوة المصريين بتوابيت صدام حسين ردا على قبولهم التجنيس بالجنسية البحرينية، وهي أقوال مسجلة وموثقة، ولنسأل فرنسا كيف ستنظر إلى أي ناشط سياسي فرنسي لو زار عائلة الأخوين كواشي معزيا لها، ومعتبرا الأخوين في عداد (الشهداء) أي ضمن الموتى المقدسين؟! هل كانت ستعتبر ذلك الفعل مجرد رأي لناشط سياسي؟ هكذا كان علي سلمان ومعه أعضاء جمعية الوفاق ينظرون لقاتلي رجال الأمن، وكل متهم وكل محكوم في قضايا إرهابية على أنهم شهداء، مما أدى إلى مقتل 14 رجلا من رجال الأمن البحرينيين، كان بعض أصحاب (الرأي) السياسي هم أول المعزين وأول المصطفين في جنازات القتلة وهم من يحملون الإرهابيين على أكتافهم وتحمل مقالات كتابهم تبريرا للعنف والإرهاب، ويطلقون على رجال الأمن صفات عنصرية تعيرهم بأصولهم وأعراقهم، فهل هذه الآراء مسموح بها في فرنسا؟ لطالما اشتكت الدول العربية كمصر والسعودية والبحرين من تحول أوروبا إلى ملاذ آمن وقلعة حامية «للمتشددين» المطلوبين للعدالة فيها بسبب ارتكابهم أعمالا تحريضية على الإرهاب، ولكن لا حياة لمن تنادي. فلم تكن أوروبا ترى في الهاربين من السعودية أو البحرين أو الأردن أو مصر إلا مجموعة من الناشطين سياسيا أو حقوقيا تطاردهم الأنظمة العربية بسبب آرائهم، فهم في نهاية المطاف لم يحملوا سكينا ولا مسدسا ولا قنبلة، وآراؤهم - حتى وإن كانت متشددة - فإنها ستظل من وجهة نظر الثقافة الأوروبية التي من رحمها خرجت وثيقة حقوق الإنسان مجرد آراء والرأي لا يقتل. منحتهم أوروبا حق اللجوء وبعضهم نال شرف الجنسية وحصنتهم قانونيا، بل وأعطتهم مخصصات مالية متمتعين بما تمنحه قوانين الهجرة وقوانين اللجوء من مكتسبات لطالبي اللجوء السياسي، وبكل أريحية مارسوا أنشطتهم هناك رغم أن النشاط لم يكن (تعبيرا) فحسب، بل كان تنظيما وتمويلا وتجنيدا لجماعات مسلحة شيعية وسنية، من خلال الصحف والمؤسسات الوقفية الشيعية والسنية ومن خلالها أشعلت نار الفتن على الأراضي العربية. لم تعن أي من الدول الأوروبية بالتحقق من ربط تصاعد وتيرة الإرهاب في الدول العربية، مع تصاعد نشاط هذه المجموعة المتشددة على أراضيها، إلى أن فوجئت أوروبا بعدد المقاتلين المسلمين الذين يحملون الجنسية الأوروبية في صفوف تنظيم داعش قد وصل إلى 7 آلاف مقاتل، أي ما يقارب النصف من عدد مقاتلي داعش الـ15 ألفا، ومعظمهم كانوا مريدين وجمهورا للقيادات التي آوتها أوروبا أو على صلة عن طريق الإنترنت بقيادات إرهابية خارج الأراضي الأوروبية، وإلى أن فوجئت بأن جمع المال للميليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا والعراق، يتم هو الآخر عن طريق وسائط إعلامية تبث قنواتها من أراضٍ أوروبية جميعهم سكتت عنهم، طالما كانت نار خطبهم وآرائهم لا تمس الأراضي الأوروبية، إلى أن وجهوا سهامهم إلى عمق الأراضي الأوروبية، حينها فقط أفاقت أوروبا من سباتها، ولم تنتفض هذه الانتفاضة التي نراها الآن والتي وضعت قيودا على حق التعبير تناقض تماما القيم والمبادئ التي كانت تروجها إلا بعد أن أصبح «التعبير» عنصرا أساسيا من عناصر الجريمة الإرهابية التي وقعت على أراضيها. ولم تبد أوروبا هذا القدر من الرغبة في التعاون مع الأنظمة العربية لمكافحة الإرهاب إلا بعد أن حصل ما حذرت منه هذه الأنظمة وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية ومصر، فاضطرت أن تفتح رغما عنها ملفا تجنبته لعقود مضت، وهو ربط الجريمة الإرهابية بالرأي وبالخطاب سواء كان هذا الخطاب تبريرا أو تمجيدا للإرهاب، الآن فقط اقتنعت أوروبا أن الرأي ممكن أن يكون إرهابا. الآن فقط أصبحت أعمال التبرير العلني للإرهاب تعد جريمة بموجب المادة 421 - 2 - 5 من قانون العقوبات الفرنسي. يُعاقب على هذه الجريمة بالسجن لحد أقصى 5 أعوام، وغرامة 75 ألف يورو. كما تتوفر عقوبات أكثر غلظة للجريمة حال ارتكابها على الإنترنت، لتصل إلى السجن بحد أقصى 7 أعوام وغرامة قدرها 100 ألف يورو، والآن فقط تناقلت التقارير وجود ما لا يقل عن 50 تحقيقا مفتوحا في فرنسا منذ الأسبوع الماضي ضد أناس يُشتبه في تبريرهم علنا للإرهاب. ليس من الواضح كم من هذه التحقيقات متصلة باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. توجد في قوانين دول أخرى جريمة جنائية مشابهة للمذكورة، بما في ذلك في المملكة المتحدة، حيث «التشجيع» على الإرهاب فعل مجرم بموجب البند 1 من قانون الإرهاب لعام 2006. ما يهمنا الآن بعد أن أصبح التبرير والتمجيد والتحريض على الإرهاب جريمة يعاقب عليها القانون في الدول الأوروبية أن تقوم الأجهزة الأمنية في الدول العربية، خاصة مصر والمملكة العربية السعودية والبحرين، أي الدول التي تعاني من عنف المجموعات الإرهابية، بتحضير ملفات قيادات الأجنحة السياسية المرادفة للأجنحة المسلحة التي تمارس أنشطتها على الأراضي العربية، سواء القيادات التي تحمل جنسية أوروبية أو حاصلة على اللجوء السياسي أو حق الإقامة في أي من الدول الأوروبية أو حتى تلك الباقية في دولها، وتدعمهم أوروبا وتراهم مجرد قادة للرأي سياسيين أو إعلاميين أو رجال دين سلميين، أن تزودهم بملفات تبين الرباط بينهم وبين الجماعات الإرهابية والحافلة بالأدلة صوتا وصورة بكل أنواع الخطاب الإرهابي الحافل بمبررات الإرهاب وتمجيده. إن فرض الدول العربية لشروطها الآن، هو أفضل فرصة كي يكون التعاون مجديا للطرفين للقضاء على الإرهاب الشيعي والسني المتطرف، لإعادة النظر في مغزى ومعنى حرية التعبير، في التفرقة بين الحرية المطلقة والحرية المسؤولة، في كشف التلاعب والتدليس الذي وزع الأدوار بين أجنحة مسلحة وأجنحة سياسية لذات الجماعة وأصحاب نفس الأجندات والأهداف، كي يكون التحالف العربي الأوروبي المطلوب في المرحلة القادمة للقضاء على الإرهاب ولإعادة الاستقرار للمنطقة تحالفا يحمل قدرا من التوازن للطرفين.