ليس ثمة شك أن الأماكن المقدسة قد وجدت من العناية والتطوير ما جعلها تستحوذ على كل اهتمامات من أعلى قمة الهرم بل وجعل نفسه خادما للحرمين الشريفين فشهدت قفزة ونقلة نوعية في مستوى منظومة الخدمات التي تقدمها الدولة لهذه الأماكن وقاصديها، وبما يصب في خدمة هذا الدين ومقدساته وشعائره والوصول إليها بسهولة وطمأنينة. إن تعدد نواحي البذل والسخاء للمشاعر للمقدسة لا يقف عند حد ولا يمكن معه الحصر فهذه الدولة المباركة واستشعارا لدورها ومسؤوليتها تجاه المسلمين ما أن ينتهي موسم الحج إلا وتعكف من جديد على تلمس أوجه التحسين والتطوير في كل الأمور وتلافي الخسائر وسد الثغرات وهو ما حققته من نجاحات في السنوات الأخيرة وسنشهـد أضعافها في مواسم قادمة بإذن الله. الأمر الذي يبين بجلاء حجم الجهد المبذول الذي توظف له المملكة طاقاتها وإمكانياتها المادية والبشرية، فهي تنفق بسخاء منقطع النظير على عمارة الحرمين والمشاعر ومرافق الحج وما يتصل بها من طرق وجسور وأنفاق ومبان وخدمات ومشاريـع نقل وسهولة في رمي الجمرات بمشاريـع جبارة. ويشهد المسجد الحرام هذه الأيام ورشة عمل كبرى هي الاكبر والأضخم في تاريخه لتوسعة صحن المطاف من أجل استيعاب المزيد من أعداد الحجاج والمعتمرين ضمن جملة من المشاريـع التي يتبناها هذا البلد الأمين في خدمة المشاعر المقدسة وتيسير الحج وتسهيل أداء مناسكه على المسلمين. غير أن هذه التوسعة تستدعي من المسلمين في كل بقاع الأرض التعاون وتغليب مصلحة الفرد على الجماعة، كما تقتضي تقليل أعداد القادمين وتخفيض نسبة أعداد الحجاج حتى يتم الانتهاء من هذا المشروع. إن قرار تخفيض الحجاج قرار استثنائي لا يمكن فهمه إلا من خلال المصلحة العامة للمسلمين والظروف المحددة، وضمانا لسلامة الحجاج وقاصدي البيت الحرام حتى لا يفوق أعدادهم الطاقة الاستيعابية للحرم، ويشفع لهذا القرار حجم المشاريـع القائمة في ضخامتها ونبل مقاصدها وأهدافها والتي يجري العمل بها على قدم وساق لتسهيل أداء الحجاج والمعتمرين مناسكهم بكل يسر وسهولة. هذا التوجه الحميد وآثاره النافعة لاسيما أنه قرار مؤقت يصب في مصلحة ضيوف الرحمن مراعاة لتفادي شدة الزحام خلال هذه الفترة، والحرص على راحتهم وسلامتهم. إن إدارة الحج وتنظيمه عمل جبار، ولا أتوقع أن هناك بلدا يمكنه أن يدير ويوجه مثل هذه الحشود التي تزيد على أربعة ملايين فرد بكل نجاح واقتدار رغم ضيق المكان ومحدودية الزمان، لاسيما وهم يفدون من أصقاع الأرض بتعدد ثقافاتهم واختلاف لغاتهم وتباين لهجاتهم وتعليمهم. ولكم أن تتخيلوا صعوبة المهمة والجهد الشاق الذي يبذله القائمون على تنظيم هذا الاحتفال الديني السنوي وما يسببه من ازدحام وارتباك واختناق، ولهذا ينبغي على الجميع أن يقدموا العون والمساندة لهذه الجهود وأن يتم التعاطي مع التوجيه السامي بمهنية وحرص واستشعار للمسؤولية بعيدا عن الرؤية الأنانية وتفاديا للازدحام الشديد الذي يفضي إلى الإضرار بالحجاج وأمنهم وسلامتهم وتدارك أي خطر على راحتهم وصحتهم، انطلاقا من القاعدة الشرعية «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». ولأن الحج في مضمونه رحلة عبادة وتغيير للسلوك وليس فسحة وتسلية فهو مشروط بتحقق جملة من الآداب من أولاها أن لا يتم التحايل على الأنظمة كما يفعل الكثيرون وتجاوز أمرها في الحج بدون تصريح، خصوصا إذا ما علمنا أن عدد المفترشين غير النظاميين قد بلغ في السنوات الماضية أرقاما قياسية وصل عددهم إلى أكثر من 1.4 مليون، ولكم أن تتخيلوا ما يحدثه هذا العدد من ازدحام هائل يفقد فريضة الحج روحانيتها وقدسيتها، ويحيلها إلى صخب وضجيج وعراك نتيجة مشاركتهم الحجاج النظاميين في خدمات ليس لهم حق فيها ، فلا تكن سببا في قتل الحجاج النظاميين ومضايقتهم. ولأن معظم الذين يحجون بدون تصريح هم من حجاج الداخل، فإننا نهيب بالإخوة المواطنين والمقيمين وخصوصا أولئك الذين سبق لهم أن قد حجوا ــ وهم كثيرون ــ بأن يفسحوا المجال لإخوانهم الذين لـم تسنح لهـم الفرصة بأداء مناسك الحج من قبل والذين هم أولى بأداء فريضتهم لأول مرة. كما نتمنى على الشركات المرخص لها نظاميا بتقديم خدمة حجاج الداخل أن تأخذ بنسب تخفيض أعداد القادمين لأداء مناسك الحج، وأن تتجه نحو تخفيض أسعار حملات الحج بقدر الإمكان. إن الله شرف هذه البلاد وزادها رفعة ومكانة بأن جعلها محضنا سنويا لوفود الرحمن وقبلة للمسلمين، وتحية أرسلها بالحب و التقدير لكل من يساهم في تحقيق نجاح موسم الحج من أبناء الوطن المخلصين أيا كانت مهمتهم وأيا كان موقعهم .. ودمتم سالمين.