كانت القرمطية، في بدايتها فرقة إسماعيلية تأسست على يد حمدان بن أشعث القرمطي، الذي تأثر بالداعية حسين الأهوازي. وابتدأت دعوة حمدان من واسط (بين الكوفة والبصرة)، التي كان «يسكنها خليط من العرب والسودان، أكثرهم فقراء، مستاؤون». وفي الفترة ما بين عامي 261هـ و278هـ، دأب على تنظيم دعوته، وفي عام 278 هـ أعلن الثورة، وأرسى نواة دولة تولى إدارتها حتى عام 296هـ. واعتمد مساعدة صهره الداعية عبدان، وعين زكرويه بن مهرويه داعية العراق الغربي، وأبا سعيد الجنابي داعية فارس الجنوبية الذي سينتقل إلى الأحساء ليؤسس الدولة القرمطية في البحرين عام(286هـ) التي بقيت قوية طوال 180 عاماً، لتقودهم هزيمتهم عام 378هـ أمام العباسيين إلى الزوال التدريجي. حافظوا على إيمانهم بالإسماعيلية المبكرة، قبل أن تشهد «الإصلاح الكبير» على يد عبيد الله المهدي في عام (286هـ) وتمسكوا بالقول: «يكون بعد محمد (ص) سبعة أئمة ينتهون بمحمد بن إسماعيل، هو الإمام القائم المهدي المنتظر، يبعث شريعة جديدة ينسخ بها رسالة محمد (ص)». وأبقوا على ترسيمة الإمام المخلِّص، مع التصورات الكونية المرافقة لها، المشدودة إلى رؤية نشورية (إسكاتولوجية) قوية، وبإيمان بانبثاق هذا (البعث) للإمام الذي ينشر بقدومه العدل. وربطوا خلاصهم بتوسط الإمام، «لأن الحق يعرف بالتعليم من طريق الإمام الذي يعرف التأويل»، وأن الرجل لا يصير مؤمناً «إلاّ بعد أن يصل إلى التأويل، ولا يصل إلى التأويل إلا بعد أن يقرأ شرائع صاحب الدور ويعمل بها». ونظروا إلى دعوتهم كجسرٍ يمهد إلى (رجعة) محمد بن إسماعيل. أخضع القرامطة تاريخ الإنسانية الديني لأدوار (سباعية) متصاعدة، كل دور يفتتحه ناطق (نبي) يخلفه وحي روحي (الأساس، الصامت)، يتولى تأويل الشريعة، ويصبح الإمام السابع، لكل دور نبوي، في موقع (الناطق) للدور التالي، فينسخ شريعة ويبشر بشريعة جديدة، وبالتالي فإن محمد بن إسماعيل، سابع أئمة الدور المحمدي، دخل كهف السرية لينهض من جديد لينسخ شريعة الإسلام ويُعلن الدور الأخير من العالم، حيث لا حاجة للشرائع بعد أن توطد العدل، وانتهى الفساد، وانتهى الزمان. لذا، سيحدث التباعد بين حمدان وعبدان والإسماعيلية عام 286هـ، حين رفع عبيد الله المهدي نفسه وأسلافه من مرتبة حجة الإمام المستور (محمد بن إسماعيل) -وهو ما كان يُعرف عنه سابقاً- إلى مقام الأئمة الفعليين من نسل محمد بن إسماعيل، مع ما يتضمنه هذا من إنكار المهدية والنشور عن هذا الأخير. وهو الأمر الذي رفضه القرامطة. العدل والمساواة إن طبيعة مذهبهم النشوري (الإسكاتولوجي)، المتضمن طلب العدل، والطبيعة التنظيمية السرية، والقاعدة الاجتماعية المرتكزة إلى القاع الاجتماعي، جعلت لحركة القرامطة صفة اجتماعية فرضت تهديداً على النظام العباسي، اذ رفضت شروط المجتمع، تُحرِّكها طوبى المثل الأعلى المجسدة بمبادئ الإسلام التدشينية. واعتمدت على مساعدة «الفلاحين المعدمين والبدو بشكل أساسي، ما أفقدها تواجدها الحضري... وكونت قبائل البدو في البحرين وسورية العمود الفقري للحركة... ودعمهم في اليمن رجال القبائل، وفي شمال أفريقية قبيلة كتامة البدوية». إذا أردنا إدراك قوة تلهف هؤلاء لقيم العدل والمساواة التي بشر بها القرآن الكريم، فما علينا إلاَّ تفحص الصفات التي أسبغوها على الإمام، الذي بعودته سيقيم العدل مكان الظلم، والمساواة محل التفاوت «حينئذ يشرب الثور والسبع من حوض واحد، ويخلف الراعي الذئب على غنمه، ولا بدعة من البدع إلاّ أُطفئت، ويرد الحق إلى أهله». وقد كتبوا على أعلامهم التي رفعوها في ثورة 316هـ، آية قرآنية تقول {ونريد أن نمنّ على الذين استُضعِفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص:5). اعتمد نظامهم الاجتماعي على نزعة تكافلية مساواتية، إذ ابتدع حمدان سنة267هـ نظام (الالفة) الذي يقضي بنزول أتباعه عما يملكونه ليصبح ملكاً للجماعة، وأن يكونوا أسرة واحدة، لا يفصل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه. وشراكة الأموال هذه، كانت «تنسجم تماماً مع الأمل برؤية ملكوت الله يتحقق قريباً على الأرض». ولقد لامس المؤرخون التطلعات ذاتها عند قرامطة البحرين، الذين نشر الجنابي فيهم «فكرة المؤاخاة الشاملة بين الناس مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية والعرقية والجغرافية». الحكم والانفتاح على «الشورى» يعتقد بعض الباحثين -أمثال دي خويه- أن حكمهم لم يتخذ طابعاً ملكياً، لعب فيه أبو سعيد دور الحاكم الأول بين مثلاء له، أعانه مستشارون تربطهم به علاقة المصاهرة أو الرسوخ في العقيدة، وأطلقوا على هذه النخبة لقب «العقدانية»، أي أصحاب الحل والعقد، الذين يشكلون مجلساً يتداولون فيه بالأمور المهمة تحت رئاسة أبي سعيد. ويبدو أن هذا الشكل من النظام السياسي ظل معمولاً به حتى زمن زيارة ناصر خسرو، الذي يلاحظ وجود حكام ستة يجلسون على تخت «يصدرون أوامرهم بالاتفاق ولهم ستة وزراء... يتداولون في كل أمر». على رغم طوبى العدالة والمساواة التي شدد عليها الخطاب القرمطي، إلاّ أن القاعدة الاجتماعية (البدوية) للحركة، وطابع العصر، ونزعتها العصبوية نالت بالعمق من دقة تمثيلها لهذه المفاهيم، فقد لاحظ الباحثون اعتماد الدولة القرمطية في الأحساء على الرقيق في الأعمال الزراعية والحرفية. وقدم خسرو شهادة على «وجود ثلاثين ألف عبد زنجي وحبشي يشتغلون بالزراعة والفلاحة والبساتين». ظلت الحركة القرمطية ابنة زمانها وتعبيراً مناسباً عن قاعدتها الاجتماعية، ولم تكن لتختلف عن الحركات الثورية التي شهدتها المسيحية الوسيطة، فقد كانت هي أيضاً احتجاجاً قوياً على سلطة جائرة، ولكنها بقيت أسيرة ظروفها التاريخية، وكانت على صعيد العقيدة تشكل إعادة إنتاج، في صورة أكثر جموداً وتصلباً وانغلاقاً من العقيدة السائدة. لخص (دي خويه) التجرية القرمطية بقوله إنهم «تسببوا بامّحاء الأثر الضعيف الذي تركه الإسلام في البدو، بسقوط هذا الكابح الفعال للبربرية القديمة، وعلى رغم ذلك فإن قرامطة البحرين كانوا يعملون بوجدان الذي يخدم قضية عادلة».