ودعت تونس يوم الأحد الماضي مرحلة صعبة من تاريخها الحديث وهي المرحلة الانتقالية المؤقتة التي دامت أربع سنوات ودخلت في وضعها الدائم المستقر باستكمال المسار الانتقالي بنجاح عبر تنظيم الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين المترشحين الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي، وقد توجه التونسيون والتونسيات إلى صناديق الاقتراع للمرة الثالثة في أقل من شهرين، وللمرة الرابعة في ثلاث سنوات. وبشهادات الملاحظين والمراقبين المحليين والدوليين كانت انتخابات يوم الأحد الماضي سليمة ونزيهة وشفافة عبرت عن الوعي الحضاري للشعب التونسي، وهو ما أثار إشادة عربية ودولية بسير هذه العملية الانتخابية، التي أفرزت فوز الباجي قائد السبسي بمليون و700 ألف صوت أي بنسبة 55.68 ٪، بينما تحصل منافسه المنصف المرزوقي على مليون و300 ألف صوت، بنسبة 44.32 ٪ من أصوات ثلاثة ملايين ناخب، وقد بلغت نسبة المشاركة في التصويت 60.11 ٪، وقال شفيق صرصار رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إن هذه النتائج تتوج المسار الانتخابي في تونس. وهكذا يكون الباجي قائد السبسي أول رئيس للجمهورية التونسية الثانية، وسادس رئيس لتونس منذ استقلالها في 58، بعد الرؤساء الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي ومحمد الغنوشي وفؤاد المبزع والمنصف المرزوقي. والرئيس التوسني الجديد البالغ من العمر 88 عاماً جاء من مهنة المحاماة إلى السياسة، وتدرج في حكومات بورقيبة في مختلف المسؤوليات الوزارية ومن أهمها أنه كان وزيراً للداخلية ووزيراً للدفاع ووزيراً للخارجية، وكان بورقيبة عندما يغضب عليه يرسله سفيراً في إحدى الدول الأوروبية، كما عمل رئيساً لمجلس النواب مع الرئيس الأسبق بن علي.. ثم انسحب من عالم السياسة وعاد إليه في عام 2011 بعد سقوط نظام بن علي عندما عينه الرئيس الأسبق فؤاد المبزع رئيساً للحكومة بعد استقالة محمد الغنوشي وعمل في أخطر الظروف وأدقها وواجه أوضاعاً اجتماعية واقتصادية وأمنية صعبة للغاية أدخلت البلاد في الفوضى والانفلات والاضطرابات والاعتصامات والمظاهرات وعمليات الحرق والنهب، فنجح في فرض النظام والقانون وفي تنظيم أول انتخابات نزيهة في تونس أفرزت المجلس الوطني التأسيسي ثم سلّم السلطة إلى حكومة شرعية منتخبة ومنبثقة عن هذا المجلس، لكنه لم يغادر المشهد السياسي فأسس حزباً جديداً هو حزب «نداء تونس» تمكن به بعد عامين فقط من تأسيسه من أن يهزم «الترويكا» وحزب «النهضة» في الانتخابات التشريعية الأخيرة وأصبح حزبه هو الأول في البلاد له أغلب المقاعد في مجلس نواب الشعب، البرلمان الجديد، ثم دخل فيه مترشحاً في الانتخابات الرئاسية وفاز.. وبذلك صار حزب السبسسي الآن هو الحزب الحاكم في البلاد، بيده السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وفي شهر فبراير القادم سيشكل الحكومة الجديدة، ورغم تقدمه في السن، ما زال الباجي قائد السبسي في عنفوانه الذهني، صاحب الخبرة والحنكة والذكاء والدهاء السياسي والعلاقات العربية والدولية الكبيرة، وهو ما يؤهله لقيادة تونس في السنوات الخمس القادمة ببرنامج طموح تعهد فيه السبسي بإعادة هيبة الدولة والقانون والمؤسسات، ومقاومة الفقر والإرهاب والتهريب واستعادة المصداقية للدبلوماسية التونسية التي تضررت كثيراً في الأعوام الأربعة الماضية.. وهذه هي أبرز الملفات والتحديات المطروحة والمفروضة على الحكومة القادمة. تفاؤل كبير وبانتخاب السيد الباجي قائد السبسي رئيساً لتونس ظهر تفاؤل كبير لدى التونسيين بالمستقبل وهم يعتبرون أن السبسي هو الوحيد القادر حالياً على إخرلاج البلاد من المستنقع الذي وُجدت فيه.. وكان قبل الانتخابات يقول باستمرار إنه لو يصبح رئيساً لن يحكم وحده وإنه سيقوم باستشارة وإشراك الأحزاب الأخرى في المسؤولية بالتوافق.. وهو صاحب مقولة: «الوطن قبل الأحزاب»، وكان يردد في كل مناسبة: «لن أحكم وحدي».. وهو بذلك يحاول أن يطمئن أحزاب المعارضة التي عبرت عن مخاوفها من أن «يتغوّل» عليها حزب «نداء تونس» ويهيمن لوحده على السلطة ومفاصل الدولة، وتبقى هي مقصية ومهمشة. ولتبديد هذه المخاوف صرح الباجي قائد السبسي إثر الإعلان عن فوزه بأنه سيكون رئيساً لكل التونسيين والتونسيات.. ووجه نداء إلى أبناء عدة مناطق من البلاد، خاصة في الجنوب، ودعاهم إلى التهدئة والتخلي عن العنف بعد احتجاجاتهم على نتائج الانتخابات الرئاسية.. وقال السبسي إن تونس تحتاج إلى جميع أبنائها وهي في حاجة إلى التوافق. وقد حدد الدستور التونسي الجديد صلاحيات رئيس الجمهورية ولا يستطيع أن يتجاوزها ويضيف إليها صلاحيات أخرى، حيث ينصّ الفصل 77 من الدستور حرفياً: «يتولى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة». المشهد السياسي الجديد ولكن كيف سيكون المشهد السياسي في تونس بعد فوز السبسي برئاسة الجمهورية؟ للإجابة عن هذا السؤال يقول السيد العجمي الوريمي القيادي البارز في حزب «حركة النهضة» وعضو مجلس نواب الشعب: «ستكون للحزب الأول في البلاد سلطات لا بأس بها».. ويضيف ل «اليمامة»: «سلطات سواء أكانت في السلطة التنفيذية أم في السلطة التشريعية باعتبار أنه سيجمع رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة إذا لم تعط رئاسة الحكومة إلى شخصية مستقلة أو شخصية كفاءة وطنية أي تقنوقراط. وستكون له رئاسة المجلس، هذا بالنسبة إلى البعض عامل استقرار، وبالنسبة إلى البعض الآخر يدعو إلى الخوف ومدعاة للريبة والحذر، على كل حال نحن في حركة «النهضة» نرى أن المشهد يكون متوازناً بأن الأحزب الكبيرة تفسح لغيرها وتقبل بالتشريك وتتصرف بعقلية تشاركية وتقبل بتقاسم المسؤولية والسلطة وإدارة المرحلة القادمة وتحمّل أعبائها لفائدة الوطن والبلاد، فبمقدار أن يفسح الحزب الأول في صورة اجتماع هذه السلطات لديه لغيره كي يكون شريكاً في القرار وشريكاً في التسيير بقدر ما نضمن طريقاً آمنة إلى المستقبل؛ لأنه لا مصلحة للبلاد في الاستقطاب أو في التجاذبات أو في حكومة ضعيفة ومعارضة قوية، وإذا انفرد حزب «النداء» بالحكم لا أتصور أنه سيشكل حكومة قوية، بل سيشكل حكومة عرضة للهزات وربما تكون هشة في مقابل معارضة لا يستهان بها، والوضع المناسب للبلاد أن تكون هناك حكومة قوية ومعارضة جديدة ومسؤولة لا أن تكون حكومة هشة ومعارضة قوية، وأقول الحكومة لا تكون بجمع الحزب الأول لكل السلطات التنفيذية والتشريعية إنما تكون بتوسع قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية وبوجود دعم واسع لها من الأحزاب الوطنية والنقابات نظراً إذا كانت برامجها وطنية واجتماعية وبرامج تفتح آفاق الاستثمار والاقتصاد والتشغيل هذا هو الضمان، وبدون شك أن وجود رئيس «نداء تونس» في رئاسة الجمهورية يمكن أن يكون فرصة لتونس ويمكن أن يكون أيضاً فاتحة لأمة سياسية إذا لم يحسن الحزب الأول التصرف في السلطات التي لديه والسلطات التي يخولها له الدستور وإذا لم يدعم شرعيته الانتخابية بشرعية أخرى توافقية وبمشاركة الآخرين له في القرار السياسي». وأمام الرئيس التونسي الجديد مسؤولية كبيرة لأنه منتخب لخمس سنوات مقبلة.. لأن المشاكل كثيرة والملفات كبيرة.. وإلى الآن لا نعرف هل ستكون الحكومة المنتظرة برئاسة شخصية من حزب «النداء» الحاكم أم ستكون برئاسة شخصية مستقلة أم ستكون حكومة وحدة وطنية أم ستكون حكومة ائتلاف موسع؟ لأن المشاورات حول تشكيل الحكومة لم تبدأ بعد. ومن ناحة أخرى يشكك كثيرون في صحة الرئيس الجديد ويقولون إن عمره المتقدم لا يسمح بمتابعة الملفات والقيام بزيارات ميدانية.. لأن وضع تونس الآن يتطلب مزيداً من العمل والنشاط، وهذا يتطلب جهداً كبيراً وسهراً وانكباباً على دراسة الملفات لمدة 24 ساعة على 24 ساعة، الأمر الذي يستوجب لياقة بدنية وفكرية ونفسية، وغيرها.. أمام مخاطر أمنية كبيرة على الحدود الجنوبية والغربية.. وفي محيط إقليمي ودولي عاصف ومضطرب. والمهم، في البداية والنهاية، أن تونس خرجت بسلام من مرحلة قاسية ورهيبة ومكلفة على جميع المستويات، ودخلت في مرحلة جديدة من الأمل والعمل والتوافق والتشارك.. وتجنبت ما نراه اليوم في أقطار عربية عديدة من اقتتال داخلي وغياب الدولة والقانون وقلاقل وتدمير وتدخلات خارجية بأجندات أجنبية معروفة وواضحة الأهداف.