يستغرقنا دوماً الحنين إلى الماضي وشجن يدير رقابنا إلى الراحل المتلاشي، وكأننا نعيش لحظة طللية أبدية، عاجزة عن الانعتاق من ماضيها. نوستلجيا وبائية تنتشر بيننا تجعلنا نشعر أن مكمن الكمال المطلق هو التاريخ، ويصبح نشاطنا البشري بدلاً من أن يستجيب للصيرورة الزمنية المتبدلة المتغيرة المنطلقة دوما إلى المستقبل، نعتقل في اللحظة الطللية الأبدية حيث الماضي.. وزمن الطيبين، زمن النقاء والكمال. وبالتأكيد في أعماقنا نعلم بأن هذا ليس هو الواقع، ولكن كل ماهنالك أن الشجن استعمل حيلته الماكرة فغربل الماضي من العيوب وأبقاه مثالاً للمطلق المصفى من الدنس، على حين أنه طوال المسيرة البشرية المتصعدة نحو كمالها فلن يكون الماضي هو الأفضل فالمستقبل هو مكمن الوعد والأمل. على سبيل المثال الآن ونحن على مفصل عام جديد لو اخترنا مثلاً العودة مئة عام إلى الوراء عام (1914-2014) فماذا سنجد؟ - ففي هذه الأيام بالذات كان العالم يمر بأبشع الحروب التي مرت على تاريخه، حيث انساق في حرب كونية مدمرة بين الحلفاء ودول المحور كانت انعكاساتها على منطقتنا بشعة من تقسيم وجوع (سفربرلك) وتشتيت وكانت نتائجها 9 ملايين قتيل، هذا بالطبع غير ملايين المآسي التي نبتت على ضفاف حرب مدمرة من هذا النوع. - قبل مئة عام لم يكن قد اخترع المضاد الحيوي وكان البشر يتعرضون، بعد العمليات الجراحية إلى الالتهابات والتعقيدات التي تودي بحياتهم أكثر من خطورة العملية. - قبل مئة عام لم يكن قد اخترع لقاح السل وشلل الأطفال، وكان يصاب به العشرات منهم الرئيس الأمريكي روزفلت. - قبل مئة عام لم يكن وصل بعد إلى المنطقة لقاح الجدري، (الداء المخيف الذي اختطف كريمتي أشهر بصيرين في تاريخ الأدب العربي، أبي العلاء المعري وطه حسين) بينما في منطقة نجد كانوا يعالجون المصاب بتغطيته بالرماد.. ومن تحت الرماد إما يخرج جنازة أو سليماً لكن مليئاً بالندوب. - كانت المدن بسيطة وبدائية ولم تكن تملك البنية التحتية من ماء وكهرباء وصرف صحي، مع استفحال شرور الثلاثي الأزلي.. الجوع والفقر والجهل. - كنا بدون تلفاز أو مذياع، أو صحن فضائي، أو برنامج سكايب يجلب أبناءنا المبتعثين لنا ليشاركونا سهرة عائلية حول التلفاز. بعد أن نكون حولنا لهم قبل دقائق بعضاً من مصروفات غربتهم من خلال شاشة نفس الجهاز. - قبل مئة عام لم تكن المرأة وقتها قد تعلمت، وكان الحديث عن تعليمها نوعاً من الفحش والإفساد في الأرض، ولكنها كانت تقود الجمل (الآن لا تقود السيارة ). - قبل مئة عام.. لم يكن تأسس الطيران بشكله التجاري، الذي ينقلنا من مدينة إلى أخرى قبل أن يرتد الطرف، مع فقط أعراض طفيفة من (الجت لاق). .. القائمة طويلة فقط سأطلب الآن من أولئك المعتقلين داخل لحظتهم الماضوية إلى الأبد كمصدر للكمال المطلق، أن يقذفوا بجميع ما جلب لهم القرن الماضي في عباءته من النافذة، هل ستستطيعون المضي ليوم واحد دونه؟.. لا أعتقد. في المستقبل يكمن الحل والبشرية تظل في صراع مع محيطها للتغلب على شرورها وعذاباتها في جدل وديلكتيك لا ينقطع والفيلسوف الألماني الشهير هيجل يرى (ان كل شيء هو في تناقض مع ذاته ووجوده، وطبيعة الشيء هي التي تدفعه إلى أن تتجدد حالة وجوده إلى حالة أخرى، أي الصراع من أجل تحقيق الذات، والوعي بنقصه هو الدافع لهذا الصراع، فيحاول إقامة العلاقات مع الأشياء الأخرى لإكمال هذا النقص. واتخذ هيجل من علاقة الإنسان بمحيطه مثالاً لتفسير هذا المفهوم). لذا فالبشرية تظل دوماً في حالة تصعد نحو غاية أسمى.. والحل يكمن دوماً في المستقبل. لمراسلة الكاتب: oalkhamis@alriyadh.net