تمر الذكرى الثالثة لرحيل الأديب الكبير الدكتور غازي القصيبي (1360 – 1431ه) ولا تزال ذكراه عبقة في نفوس محبيه عالقة في قلوب قرائه لا تمحوها أيام وليالي فراقة، وكلما شارفت ذكراه نحو النسيان أو غابت صورته في الأفق تذكرنا روائعة الخالدة ونصوصه البديعة ومواقفه الوطنية لن تستطيع ذاكرتنا نسيان رجل هام بقامة غازي القصيبي - يرحمه الله - نتذكر فيه الشاعر المفلق والروائي المبدع والكاتب البليغ والخطيب المصقع والوزير الأمين والسياسي البارع. ثلاث سنوات مضت وغازي القصيبي موجود بيننا في ندوة أدبية أو في رسالة جامعية أو في قصيدة له نرددها بإعجاب، أو في كتاب يسرد بعضاً من أدبه وفنه. لقد ترك لنا القصيبي محبته في قلوبنا ثم رحل، أوقد في أحاسيسنا قصائد لن ننساها، احتل مكاناً باسقاً في مشهدنا الثقافي. وأكد له القارئ والناقد والدارس هذه المكانية العالية. واليوم نحتفل سوياً بذكراه الثالث مع كوكبة ممن ألفوا عنه الكتب وخصوه بالدرس وعنوه بالقراءة ولكثرة الذين أوقفوا عنه الكتب فإننا حرصنا أن يشارك معنا نفر منهم في هذه الأحتفالية وفاءً لقامته الأدبية واعتزازاً لما قدم لمشهدنا الثقافي. في مطلع هذا الاحتفاء بذكرى الأديب القصيبي يتحدث لنا الناقد الأستاذ عثمان جمعان الغامدي الذي يعد أول من خص القصيبي بمؤلف مستقل فقال: رحمة الله على الأديب والمثقف والوزير غازي القصيبي، فهو أنموذج للمثقف الفعال في فضاء الثقافة والأدب، عميق الثقافة، واسع الاطلاع، كما أنه أنموذج للقيادي الذي ينبغي أن نضع أسلوبه في العمل الإداري قاعدة تحتذى، ويسير عليها كل من رام الإدارة أو كلّف بها. أتذكر أنني حينما أنهيت الفصل الأول من كتابي (أوراق عن القصيبي وحواء) نشرته في إحدى الصحف المحلية، وللأسف اختصرَتْ هذه الصحيفة الموضوع اختصارا مخلا، كما تفعل كثير من الصحف حينما تريد توفير مساحة للإعلانات، فخرج الموضوع بشكل لا يدل على سير منهجي، أو استدلال منطقي. وكان الدكتور غازي يرحمه الله آنذاك سفيرا في دولة البحرين، فقررت حينها ألا أنشر في الصحافة ما لم تكن في ملحق، ولعل هذه الصدفة من الصحيفة كانت مناسبة فأكملت الكتاب عن المرأة في شعر القصيبي، ونشرته في عام ه، وكان بفضل الله الكتاب الأول في شعر القصيبي. غازي القصيبي يرحمه الله شاعر مطبوع، وروائي بارع، وكاتب مقالة متميز، بل لا أجاوز القول إذا ما قلت إن ذوقه النقدي أخرج لنا آراء دقيقة في الشعر خاصة، وهو في كتاباته الساخرة يذكّرنا بسخرية الجاحظ، ولديه العديد من الكتابة في سخرية مرة، تظهر في آرائه عن بعض النظامين، وفي المواقف الاجتماعية. وكتاباه (الخليج يتحدث شعرا ونثرا) و(استراحة الخميس) أنموذج للكتابة النقدية في الأدب، وفي العادات الاجتماعية. ويعرج الغامدي نحو روايات الراحل ويؤكد: تعد روايته (العصفورية) من الروايات المميزة، سواء في الموضوع أو في تقنيتها الروائية، ففيها الشخصية المثقفة التي تحتاج إلى دراسة متخصصة، فبهذه الشخصية (البروفيسور) اجتاز الأنماط الحياتية إلى عوالم الخيال، ليبسط القول في الأدواء التي اعتورت المجتمع العربي، سواء في البعد الاجتماعي أو في البعد السياسي المحزن. ولعله لامس جزءاً من الموضوع في روايته (أبو شلاخ البرمائي) بشخصية أبي شلاخ المثقفة أيضاً. وإذا كانت روايتي (العصفورية) و(أبو شلاخ البرمائي) خصصهما للحديث في الشأن الاجتماعي والسياسي فإن روايتيه (حكاية حب) و (رجل جاء وذهب) كانتا ملامستين لشغاف القلوب بحكاية حبيبين التقيا في ظروف طارئة كالسفر مثلاً. ولعل مما يجدر ذكره عن هاتين الروايتين أنهما قصة واحدة، لكنه خالف بينهما في زاوية الرؤية، وهو ما يعرف في السرديات ب(التبئير). أدب الدكتور غازي القصيبي مازال بحاجة إلى الكثير الكثير من الدراسات، فهو في رأيي لم يُدرس بالشكل الذي يستحقه، ولم يول من العناية بما هو أهل له، سواء في الشعر أو في الرواية، أو حتى في المقالة، فالقصيبي كاتب مقالةٍ من الطراز الرفيع، فكتابه الأثير (عن هذا وذاك) أو كتابه غير المتواضع (في رأيي المتواضع) دبّج فيهما خلاصة آرائه في الحياة وفي الناس. بل إنه يرحمه الله تجاوز ذلك كله بكتابه الرائع (ثورة في السنة) وهذا الكتاب يشكل فعلاً رأياً ثورياً فريداً صحيحاً، معتمداً على النصوص الدينية، ولكن برؤية المثقف القارئ العميق للنصوص بشكل عام، وبرؤية إنسان هذا العصر الذي جاب العالم، وعرف الحياة كما لم يعرفها إلا القلة القليلة من أصحاب العقول.. عليه رحمة الله. أما الباحث والأديب حماد السالمي فقد استعاد من ذاكرته أيامه مع القصيبي منذ أن عرفه قبل نحو أربعة عقود فجاءت هذه الكلمات: عندما شاع خبر وفاة الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، ومن ثم ذاع نبأ رحيله عن دنيانا هذه، سألني أحد الأصدقاء الفضلاء قائلاً: ماذا ستكتب عن القصيبي رحمه الله..؟ يوم ذاك.. لم أفاجأ بالسؤال، كما أني كنت مستحضراً الإجابة فقلت: غازي القصيبي - رحمه الله - أكبر بكثير من أن أكتب عنه. ها أنا أستعيد ذات الموقف معك اليوم أخي محمد باوزير، فغازي القصيبي رحمه الله، هرم ثقافي شامل، وصرح إداري كامل، هو معالي الدكتور (غازي بن عبدالرحمن القصيبي) رحمه الله وغفر له. رأيت (غازياً) رحمه الله أول مرة، في نادي الطائف الأدبي عام 1396ه، في مقر النادي القديم بحي قروى. كانت أمسية لا تنسى، خاصة وهي تتحدث بلغة جديدة غير مألوفة في تلك الفترة، وتثير العديد من الأجوبة حول سؤال المحاضر الاستفزازي الذي عنون به محاضرته: (هل للشعر مكان في القرن العشرين)..؟! وفي العام الذي يليه، جاء خطاب القصيبي من ذات المنبر، مغرداً خارج سرب الشعر والشعراء، وبلغة إدارية نهضوية شبه بحتة، صاباً الكثير من رؤاه واستشرافاته هذه في حديث واسع عن: (خواطر في التنمية). ثم توالت لقاءاتي مع القصيبي، بعد أن تقلد حقيبة وزارة الصحة، وتحديداً في فترة زياراته الفجائية لمستشفيات الطائف، وعمله الدؤوب على إدخال إصلاحات إدارية وطبية جوهرية عليها، وفي مقدمتها مستشفى شهار للأمراض النفسية، الذي نقله القصيبي من عصر إلى عصر بسرعة الصاروخ..! وفي عامي 1403ه و1404ه، كان لي شرف المشاركة مع الدكتور القصيبي - بفضل الله - في مشروع إنساني جميل جداً. المشروع تبنته مؤسسة الجزيرة الصحافية في تلك الفترة، وكان يهدف إلى إيجاد وضع اجتماعي مناسب للشاعر الكبير المرحوم حمد الحجي، نزيل مستشفى شهار بالطائف، فقد فتحت الجزيرة صندوقاً خيرياً لهذا الغرض، وبحكم رئاسة القصيبي للجنة الخيرية لهذا المشروع، تم دعم الصندوق بمليون ريال تبرعاً من الملك فهد رحمه الله عن طريق القصيبي نفسه، وقد زرته صحبة الشيخ صالح العجروش رحمه الله مدير عام مؤسسة الجزيرة، في مكتبه الوزاري بمجمع مكاتب الوزراء بالطائف، واستلمنا الشيك منه، وسمعنا منه ما يثلج الصدر، من استعداد للمؤازرة والدعم من أجل شراء فيلا وسيارة وتزويج الشاعر حمد الحجي، وإدارة شؤونه الحياتية بالكامل، ولكن الحجي غفر الله له، رفض الفيلا بعد شرائها، وزهد في عرض الزواج والسيارة وغيرها، ومات في مشفاه الذي كان يشعر بالأمان فيه أكثر من خارجه. ويواصل الكاتب السالمي حديثه عن شخصية القصيبي ليمض قائلاً: كان القصيبي رحمه الله، ضاحكاً وساخراً وهو يتحدث، لكنه أكثر الجادين جدية وهو يقرر ويعمل وينفذ قراراته، فإدارته في الصناعة والكهرباء ثم الصحة والعمل، كانت تتسم بالحنكة والحزم والحسم في آن واحد، وهذا ما كان يشجع المتظلمين من المواطنين على مقابلته شخصياً، أو مهاتفته على الهاتف المباشر الذي خصصه لهذا الغرض، بل وكان بعضهم يتمادى فيهدد المقصرين من الموظفين بهذا الهاتف الإصلاحي الفريد، الذي كان يحتل مكانه في مكتب الوزير القصيبي.. الوزير الذي كان يمازح ويلاطف موظفيه، لكنه لا يتهاون مع أي أحد منهم لو أخل بواجب وظيفته..! كنت أهديه نسخاً من كتبي، فيكتب إلي من الرياض أو المنامة ولندن، شاكراً وناقداً في وقت واحد، وبين هذا وذاك، لا ينسى تضميناته وقفشاته، والبعض من اللطائف والتعليقات الطريفة.. رحمه الله. مرة أخرى، زرته صحبة أستاذنا الكبير عبدالرحمن المعمر، وكان يسكن فندق مسرة إنتركوننتال بالطائف، فأعطانا من وقته أكثر من ساعة، للحديث عن الأدب والشعر، والكلام على همومه ومعالجاته الإدارية لجهاز وزارة الصحة قبل ربع قرن. رحمك الله يا أبا سهيل، ويا أبا يارا، فأنت حال في الذاكرة الأدبية والشعرية والإدارية لهذه البلاد، حتى وأنت مسجى في قبرك. في حين يحدثنا الناقد أحمد اللهيب عن تجربة القصيبي الشعرية وعشقه لشعره منذ صباه منذ الخطوة في عالم الشعر كان غازي القصيبي حاضرا في ذاكرتي، وكنت أسمع من شعره وأدبه ما لم أسمعه من غيره من أقرانه وأترابه في تلك المرحلة، بل إن دواوينه تعد لي المرحلة الأولى في قراءة الشعر السعودي، وحينها عرفت شاعرا يستحق كل ما حظي به من حضور إعلامي وإبداعي. القصيبي الذي اقتربت منه كثيراً في دراستي للماجستير، حين أبحرت بين أوراقه الشعرية في الكشف عن المرأة وتجلياتها، زادني خبرة فيه أن وجد شاعراً يملك ما لا يملكه كثير من الشعراء، فهو الشاعر السهل الممتنع، فإنك تجد النص حاضرا سهلًا بين يديك لغة وأسلوباً وصورة ولكنه يستعصي على القارئ أن يأتي بمثله أو قرينه، ويزداد القصيبي حضورا في ذهن القارئ حين يدرك أنه سلك من أساليب الشعرية شتى سبلها، وألقى رحاله في فيافي الشعر بأنواعها القريبة والبعيدة، فهو لم يكتف بالشعر التناظري ولا الشعر التفعيلي، بل تجاوز إلى قصيدة النثر وإن، لم يسمها بذلك صراحة، ولم يكتف بالشعر الرومانسي وهو أحد رواده، بل تجاوز إلى الشعر الرمزي والواقعي وغيرهما، ولا غرو أن أحسب القصيبي في تلك الفترة من أميز الشعراء الذين يستحقون البحث والدراسة، وما زالت الدراسات والمقارنات في شعره وأدبه تضع قدما سبق في أرفف المكتبات وفي أجندة الجامعات! والقصيبي في ذكرى وفاته الثالثة ما يزال متوهجا، في قصائده الوطنية والإنسانية والعاطفية، وفي رواياته وكتاباته المتنوعة في الأدب والسياسة والإدارة وغيرها! أما الكاتب الصحفي والروائي الأستاذ كمال عبدالقادر فيخرج ما جمعه عن القصيبي من ذاكرته ويقدمها للقارئ قائلاً: الزيدان: القصيبي نسيج وحده. ما أن عرف د. غازي القصيبي، أن الأستاذ محمد حسين زيدان سيأتي إلى المنامة، حين كان سفيرنا هناك، حتى قرر أن يقيم حفل عشاء أو غداء على شرفه، ويعرف أن الزيدان ربما يعتذر عن هذه الدعوة لإنشغاله بالمحاضرات التي كان يلقيها في جامعة الخليج .. فكر القصيبي، ورتب الأمر مع الدكتور محمد سفر، رئيس الجامعة، وزير الحج، فيما بعد، فقال الدكتور سفر إلى الزيدان، إن السفير غازي القصيبي، بنى بيته الجديد في المنامة، وسيقيم حفل غداء في بيته بهذه المناسبة، وافق الزيدان، على اعتبار أنه أحد المدعويين..! د. غازي، عرف موافقة الزيدان، وهنا عقيدة القصيبي الأخلاقية، لم يترك الزيدان يأتي إلى داره، كضيف، إنما ذهب إلى الفندق ليكون في معيته إلى بيته، ففوجئنا، الزيدان وأنا، بأن الدكتور غازي يطرق باب جناح الزيدان في فندق الدبلومات.. استقبلته.. دخل الصالون جلس لبرهة.. جاء الزيدان، رحبا ببعضهما البعض، وبدا القصيبي في سرور واضح بأنه سيكون له الحظ في الجلوس مع الزيدان حتى يحين وقت مغادرتنا إلى منزله. جلسنا ما يقرب من الساعتين، وحين نزلنا إلى السيارة، رفض القصيبي أن يركب سيارته الدبلوماسية والزيدان يركب سيارته المخصصة من قبل جامعة الخليج، فركبنا، كلنا سيارة السفارة .. وصلنا منزله، وكان موجودا الأستاذ عبدالله الجفري ود. محمود سفر، وجمع من مثقفي البحرين .. انتهى اللقاء، وحين المغادرة فوجئنا بأن القصيبي أصر أن يكون في معية الزيدان ليوصله حتى الفندق، وهكذا صار .. في الفندق، سألت الزيدان، لماذا جاءك القصيبي مادمت مدعوا في بيته؟ قال لي: يا ابني هذه أخلاق الكبار.. هكذا، القصيبي .. كبير في حياته خالد بعد رحيله.