يبدو ميدان الاتصالات مربحاً. فإذا نظرنا إلى المراتب الخمس الأولى التي احتلها البليونيرات على قائمة “فوربز”، للاحظنا أنّ المراتب الثلاث الأولى تصدّرها أشخاص جنوا أموالهم بفضل تطوير البرامج أو الاتصالات. ومن جديد، تصدّر بيل غيتس، رئيس مجلس إدارة «مايكروسوفت» المرتبة الأولى، بعد أن قُدّرت ثروته بـ81.7 بليون دولار وتبعه في المرتبة الثانية المستثمر المكسيكي - اللبناني كارلوس سليم، الذي جنى ثروته بفضل استثماراته في الصناعات المكسيكية في أميركا اللاتينية. واحتل المستثمر الأميركي الشهير وارن بافت المرتبة الثالثة، فيما حلّ لاري إليسون، رئيس مجلس إدارة شركة «أوراكل»، التي تُعنى بتطوير البرامج، في المرتبة الخامسة. وبرز في مراتب أدنى اسم البليونير لاري بايج، مؤسّس موقع «غوغل» الذي يملك ثروة تقدّر بـ32.3 بليون دولار. أما مارك زوكربيرغ، مبرمج الكومبيوتر الذي أسّس موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، فكان الرابح الأكبر خلال سنة واحدة، بعد أن قفزت ثروته من 15.2 بليون دولار في العام 2013 إلى 28.5 بليون دولار في بداية العام 2014. يشهد اقتصادنا المعاصر ثورة تكنولوجية في مجالات الكومبيوتر والتكنولوجيات الرقمية والاتصالات. وخلال العقدين الماضيين، كان هذا القطاع هو الذي ساهم في توسيع الأسواق وتراكم الثروات. وجاءت قائمة البليونيرات السابقة الذكر لتعكس هذا الواقع. وأدت هذه الثورة، شأنها شأن كلّ ثورة تكنولوجية كبرى، إلى بروز طبقة اجتماعية جديدة هيمنت على المجتمعات المعاصرة. بيد أنّ وجود رابحين يشير أيضاً إلى وجود خاسرين. فمن هم؟ لنعد إلى نقطة انطلاق ثورة الاتصالات الحالية التي بدأت في العام 1436، حين اخترع يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة المتحركة. وأدى هذا الاختراع إلى حصول تطوّرات أساسية في التاريخ الأوروبي، فقد ساهم في بروز صناعة الكتب التي شجعت على إنتاج الورق والكتب، ما اعتُبِر في ما بعد من الأسباب المؤدية إلى تطوّر الرأسمالية. كما تسببت بتقلّص عدد المخطوطات، وبتراجع الدور الاحتكاري للكنيسة الكاثوليكية في ميدان المعرفة، وسمحت بانتشار التعليم. ولا شكّ في أنّ الإصلاح والفصل بين الكنيسة والدولة ما كانا سيحصلان لولا هذا التطوّر المهمّ. كذلك، أدى الاختراع المذكور إلى بروز فئة اجتماعية جديدة تُعرف باسم «إنتلجنتي» في إيطاليا. وكانت هذه الأخيرة مؤلفة من مثقّفين عملوا في آن واحد ككتّاب مقالات وناشرين، إلى جانب كونهم صحافيين وكتّاباً في مجال أدب الرحلات وعملهم كمؤلفين ومترجمين. والأهم هو أنّه لأوّل مرة، كانت هذه الطبقة المثقفة مستقلة عن الكنيسة وعن الأمير، وقد بشّرت بولادة النخبة المثقّفة المعاصرة، التي يُفتَرض أن تبحث في مسائل مهمة اجتماعياً بروح من الاستقلاليّة. وتشير الأمثلة التي ذكرت أعلاه إلى أنّ التغيير التكنولوجي يجرّ تغييراً اجتماعياً، ما يثير سؤالاً حول نوع التغيير الاجتماعي الذي أحدثته الثورة الرقمية. وإذا استندنا إلى لائحة «فوربس» للبليونيرات، سنجد أنّ مهندسي الكومبيوتر تخطوا حتّى المستثمرين، وباتوا يتربّعون على عرش السلطة الرأسمالية. ومن ثمّ، يأتي سؤال عن هويّات الخاسرين. وأفضل مثال يخطر في بالي لتوضيح هذا التوازن الجديد للنفوذ الاجتماعي، هو مصير «واشنطن بوست»، الصحيفة اليومية الأميركية النافذة، التي تكوّن رأي النخبة السياسية في أكثر الدول نفوذاً. ولا شك في أنّ «واشنطن بوست» اليومية تعدّ صانعة آراء ذات مكانة بالغة الأهمّية للنفوذ السياسي الأميركي. وقد مُنيت بخسارة مالية، شأنها شأن عدد من الصحف الغربية، نتيجة بروز الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وتراجعت مبيعاتها، فيما وجد سوق الإعلانات أداة أكثر فعاليّة لنشر رسالته عبر الإنترنت. أمّا مخلّص صحيفة «واشنطن بوست» فكان جيف بيزوس، مهندس الكومبيوتر الذي أسّس موقع التجارة الإلكترونيّة «أمازون» في العام 1994. وكانت «أمازون» أصلاً شــركة تُعنى ببيع الكتب على شــبكة الإنترنت. وقد تطوّرت منذ ذلك الحين لتشــمل مجال التجارة الإلكترونية الأوسع نطاقاً. وتُقدَّر ثروة بيزوس الشخصية بـ27 بليون دولار، وهو اشترى في العام 2013 صحيفة «واشنطن بوست» مقابل 250 مليون دولار تقريباً. تعكس هذه الحالة بوضوح كيف يكون الرابحون والخاسرون في العصر الرقمي. لقد نجح مهندسون ومستثمرون في اكتساب نفوذ مالي واقتصادي كبير، في حين أنّ المؤسسات أو الصحف أو ودور النشر التي تكوّن الرأي العام بالكاد قادرة على الصمود في وجه هذه الثورة. وتستطيع شركة «أمازون» التي ليست سوى شركة خدمات بريدية ووسيطة بين المنتجين والمستهلكين، أن تجمع بلايين الدولارات وأن تشتري «واشنطن بوست» مقابل مبلغ زهيد. ويُعَدّ قيام مالك «أمازون» بشراء صحيفة بارزة أشبه بإقدام ساعي بريد على شراء الكاتب والناشر. ويبدو أن مجموعة الإنتلجنتي الاجتماعية التي بدأت تتطور في مدينة البندقية في بداية عصر النهضة، تنهار اليوم. وإذا لم تكن تملك استقلالاً مالياً، كيف تمتلك استقلالاً فكرياً؟ في العصر الرقمي، يعدّ التواصل غاية في الأهمية. فهو يسمح بدرّ ثروة مالية هائلة. أمّا المعلومات التي يتمّ إيصالها إلى الآخرين، أي المحتوى الذي يمرر عبر القنوات الرقمية الجديدة، فهو بكلّ بساطة في غير موضعه، ولا يجدي على الإطلاق في سوق الأسهم.