نتحدث عن معجزات آسيا لكن لا تفارقنا الصور النمطية عن أديانها وأساطيرها ولغاتها التي اختزنتها ذاكرتنا بأنها دول حضارات كلاسيكية آفلة، بينما الغرب الذي عاداها بالاحتلال وتزييف تراثها والتقليل من شأن إنسانها بأنه من سلالات متخلفة، أثر ذلك في فكرنا وثقافتنا، بينما رحلة اليوم بأنها شعوب تنهض ولا تنام.. كتبتُ عن الصين وأندونيسيا، وقبلهما الكواكب السيارة في أفق التقدم المذهل، لكن بلداً قاوم ثلاث حروب من أكبر القوى، استطاع أن يحول نضال شعبه من المقاومة العسكرية، إلى مقاومة الفقر والتخلف ونسيان العداوات مع العالم حتى المعتدي عليه باعتبار أنه لا يوجد في قواميس وقوانين السياسة ما يمنع ترجيح المصالح في جذب الاستثمارات وإرسال البعوث للطلبة ورجال الأعمال ومخاطبة جبهات غير عسكرية لدول الضد طالما العبور الاقتصادي يسبق التوجه السياسي حتى لو ظل الخلاف بين دولة ديمقراطية وأخرى دكتاتورية، وهذا ما شهدناه حديثاً مع فيتنام الصاعد الجديد لعالم الأضواء الآسيوية.. الحروب دمرت القاعدة الاقتصادية والبنية الأساسية، ومن قاع الفقر والاعتماد على استيراد المحاصيل الزراعية وعلى رأسها الأرز، تحولت فيتنام للاكتفاء الذاتي ثم صارت واحدة من أكبر المصدرين له، ولم تختل البنية الاجتماعية بوجود الفوارق الاثنية والقومية بأن تكون مجال حروب داخلية بالرغم من النظرة التي سادت بين قطاع الشمال الذي ظل يرى الجنوب عميلاً «إمبريالياً» وكذا الجنوب الذي يماثله بالاتهام بأن الشمال عميل شيوعي، ورغم ذلك استطاعت الدولة ونخبها مواجهة تلك الرؤى بجعل الوطنية أساس المواجهات الأخطر لما بعد الحروب، وفي عملية تأهيلية فاقت ما كانت تتوقعه دول أخرى عن أزمات ما بعد الحرب.. حالياً أصبحت فيتنام قبلة اقتصادية جديدة تتسابق على إمكاناتها مؤسسات وشركات عالمية باعتبارها تملك قاعدة بشرية شابة مدربة، وتتطلع لأن تحاكي الدول المحيطة بها بالتنمية الشاملة حيث أصبح التركيز على التعليم والتدريب وجلب الخبرات الأجنبية وفتح جامعات متطورة وإرسال البعوث، هدفاً قومياً أعلى، ورغم أن الحكم لا يزال شيوعياً، فهو أخذ بتجربة الصين بالانفتاح على المجالات الاقتصادية مع الإبقاء على ضوابط الدولة المرحلية أو الدائمة حتى تصل إلى تحقيق نتائج تدفع بالمراحل القادمة إلى تبني سياسات أخرى قد تصل إلى النظام الأمثل.. بلا شك فإن النماذج الآسيوية هي الأقرب لنا للاستفادة من عوامل تقدمها على ألا نبقى أصحاب البعد الواحد في عقدة الثقافة والنهج الغربيين اللذين سيطرا علينا، ودون إنكار لتطورها الحضاري الذي أصبح منهجاً عالمياً.. الوطن العربي مقسم جغرافياً بين آسيا وأفريقيا، وإن ظل الآسيويون هم الأكثر تأثيراً ما بعد انتشار الإسلام وتحوله إلى المحاور الدينية والثقافية، إلاّ أن ذلك لا يعني غلبة الثقافة مثلاً بروح أبوية، حيث إن البعد الحضاري للأندلس، إن لم يتساو مع المشرق فهو الأهم في نقل الحضارة العربية للغرب والذي يمثله المغرب بكل قوة.. ليس الأمر يفرض بأن نكون مع من، وضد من، ولكن طالما تجاوز العالم حدود الجغرافيا والثقافات وتنوعت وتداخلت الأفكار وتعددت المصالح، فإن التوجه لآسيا القادمة بقوة لاحتلال الموقع الأول بين القوى القارية الأخرى، يفرض أن نذهب لهم، لا أن يأتوا إلينا، وأعني تحديداً دول الثروات العربية المختلفة النفطية والزراعية والتعدينية، وكذلك الثروات البشرية التي تعد عماد أي نهضة طالما القواسم المشتركة تاريخياً وجغرافياً تؤهلنا لفتح ألف نافذة وتقديم ألف زهرة لتلك الشعوب ذات الحضارات الراسخة والمستقبل الهائل.. لمراسلة الكاتب: yalkowaileet@alriyadh.net