في ملحمة "الحرافيش" لأديب نوبل المصري نجيب محفوظ، يفتش الحرافيش ( الشعب) طول الوقت عن "القوي الأمين" وينصبونه فتوَّة الحارة بعدما يجتاز اختبار "القوة" و ينجح في الإطاحة بالفتوة السابق، ثم يتعهد للحرافيش بإقامة العدل بينهم وتوفير الحماية لضعيفهم، وما أن يستتب له الأمر حتى يعود إلى سيرة سلفه، فيفرض الإتاوات الباهظة، ويستبيح البيوت، وينتهك الحرمات، ثم يستطيب العيش، ويتفرغ لجمع المال، والاستمتاع بالنساء،إلى أن يظهر من بين الحرافيش فتوة جديد، يطيح به ويمنح الحرافيش أملاً كاذباً في التغيير. .. ولكن ، لماذا يظل أمل الحرافيش في التغيير "كاذباً" رغم تكرار الإطاحة بفتوات أفسدتهم السلطة وأتلفهم الهوى؟! الجواب ببساطة هو: لأن ما تغير في كل مرة هو الفتوة وليس الحرافيش،ولأن من قام بفعل التغيير هو فتوة آخر تمكن من إزاحة غريمه، فيما اكتفى الحرافيش بحمل الفتوة الجديد على الأعناق هاتفين:" إسم الله عليه.. إسم الله عليه". لعبة السلطة عند الفتوة تستند الى فكرة أن مصدر السلطان عنده ، هو قدرته على دفع الأخطار، وليس قدرته على جلب المنافع،ولهذا لابد من وجود خطر يخشاه الحرافيش، حتى لو أصبح رجال الفتوة أنفسهم هم مصدر الخطر، فهم يداهمون متاجر البسطاء والفقراء، فيما يفرض "الفتوة" الإتاوات على الحرافيش لمنع رجاله من التعدي عليهم أو على ممتلكاتهم!!. هكذا دارت اللعبة في معظم بلدان ما يسمى بالربيع العربي، فقانون السلطة هو "فتوة وحرافيش" ومصدر مشروعية السلطة هو "خطر ما"، كان في مرحلة ما بعد الاستقلال عن المحتل الأجنبي، خطر "عودة المحتل"، وأصبح بعد غروب شمس الاحتلال بلا عودة، هو خطر" جماعات العنف المسلح" التي افرزت أغلبها جماعة "الاخوان المسلمين". ظلت "الجماعة" على مدى أكثر من نصف قرن، شبحاً، يخيف الخارج ويروع الداخل، ويمنح السلطة القائمة عمراً إضافياً، تبطش فيه بدورها وتروع ، الى أن ضاق "الحرافيش" باللعبة، فقرروا- ضمن أحداث ما يسمى بالربيع العربي- تحطيم اللعبة، وكسر قواعدها، وانتهاك تقاليدها، بل وذهب أغلبهم في تحديه لنمط من السلطة عفا عليه ألف زمن، الى حد التوحد مع الشبح، تحت عنوان "دعونا نجرب".. ولأن الأشباح تستطيع فقط انتاج الخوف، وممارسة القهر، ولا تمتلك رؤية لمستقبل، ولا قدرة على صناعته، سرعان ما أسقطها الحرافيش، بعدما تبين لهم أنه لا فارق بين عفاريت الإخوان، وبين أنظمة مارست الاستبداد لعقود ممتدة بدعوى حمايتهم منها. مطلب الحرافيش إذن هو، تغيير قواعد اللعبة، دون الاكتفاء بتغيير وجوه اللاعبين، فاستدامة قواعد لعبة حرافيش وسلطة لن تصنع مستقبلا للحرافيش ولن تضمن ديمومة الحكم لمن في السلطة. كذلك فان من خرجوا مع تباشير فجر ما يسمى بالربيع العربي لم يكونوا يتطلعون الى تغيير الفتوة ولكن الى تغيير قواعد اللعبة برمتها. بحثا عن نظام لا يلعب دور سجان الغول، وإنما لا يسمح بوجود غول يبتز به شعبه طوال الوقت مكرساً معادلة إما أنا أو الغول.. تلك الثنائية التي قوضت اي فرصة حقيقية لبناء الدولة الحديثة فوق الأرض العربية وهيأت ألف فرصة للعدو الخارجي لممارسة نفوذه والتدخل لفرض تصوراته على شعوبنا ودولنا. فلا مستقبل لأي حكم فوق الأرض العربية ما لم يتخلص من ثنائية اما أنا أو الغول، ولا مستقبل لمن يذهبون الى "الغد" مثقلين بتركة ألف أمس. بعد عقود بلا تغيير تحت عناوين عن الثورة والتثوير، لا تحتاج شعوب المنطقة لا للثورة ولا للتثوير، فقط تحتاج الى "التنوير" و" التبصير" فبدونهما، لا تغيير حقيقياً، مهما امتلأ شراع الأمل بأحلام النهضة. التنوير حملت مشاعله وقائع سبقت وواكبت أحداث، وحوادث، ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وبلغ أثره جماهير خرجت لتطيح بمن حملتهم رياح الربيع الكاذب، أما التبصير، فموكول الى نخبة معتلة فضحت ممارسات ما بعد الربيع الكاذب كل عللها، وحولتها مع الوقت الى مادة لسخرية الحرافيش وتندرهم. اعتلال النخبة، هو واحد من أفدح مآزق ما بعد انجلاء حقيقة الربيع الكاذب، فبدون نخبة مستنيرة، تصبح مهمة تبصير الجماهير صعبة، وبدون عملية تبصير تخلو من الاستعلاء، يصعب حشد الجماهير خلف هدف استراتيجي يتطلع اليه وطن طال غيابه عن منصات التتويج، ولتعويض غياب النخبة او اعتلالها، يفتش الجمهور عن قائد ، سرعان ما يتحول مع الوقت الى "الزعيم الملهم" أو "القائد الضرورة" او "المهيب الركن". في مسرحية "الزعيم"، يختتم الفنان عادل امام العمل بأغنية أراها في اللحظة الراهنة حاضرة بمفرداتها ومغزاها، تقول كلماتها:" الشعب اللي في ايده مصيره .. هو الفارس.. هو الحارس.. والأحلام موش عايزة فوارس.. الأحلاااااام بالناس تتحقق". لم يعد الحرافيش.. حرافيش... ولم يعودوا يفتشون عن فتوة يحملونه فوق الأعناق، فيركلهم اذا استقوى بحذائه... الحرافيش باتوا جماهير... والجماهير باتت شعباً... والشعب هو فارس هذا الزمان الوحيد. moneammostafa@gmail.com