في اجتماع رفيع المستوى بالأمم المتحدة، عُقد منذ بضعة أشهر، لم يدع الأمين العام شكا في أن الطرف الذي يعتبره مسؤولا عن الوضع المزري الآن في جنوب السودان، إنما هو قيادات البلاد، التي تسببت تصرفاتها في جراح عميقة، وطلب منهم أن يداووا تلك الجراح. خلال مباحثات السلام التي جرت بين تلك القيادات، الشهر الماضي، في إثيوبيا، كان باديا أنها توصلت إلى اتفاق، وكان يجب أن يترجم الاتفاق إلى أفعال، ولكن، يبدو أن سجل تلك الأفعال، حتى الآن، مثبط للغاية، وذلك في وقت تغرق فيه جنوب السودان في مستنقع كارثة إنسانية، بعد عام من الحرب الأهلية الشرسة، يُدفع ثمنها بأرواح الآلاف من أبناء شعبها، الشعب نفسه الذي كان، قبل 3 أعوام فقط، يرقص في الشوارع فرحا بإعلان استقلال البلاد. لم تمضِ على تلك المشاهد الاحتفالية فترة طويلة، حتى كنت في زيارة إلى جنوب السودان لحساب لجنة الإنقاذ الدولية، حذرت فيها من أن «كارثة كاملة المعالم» ستواجه أحدث دولة في العالم، تتمثل أركانها في «طلاق غير كامل ومليء بالمشكلات مع الحكومة الشمالية في الخرطوم، وعدم استقرار داخلي متزايد، وأزمة غذاء تلوح في الأفق». وها نحن اليوم: العلاقات بين الحكومتين تبدو جيدة على السطح، ولكن التوترات وانعدام الثقة يتفاعلان تحت السطح. والأسوأ من ذلك، أن صراع القيادة الداخلية تحول إلى نزاع سمته الهجمات المروعة على المدنيين لمجرد انتمائهم الإثني أو ولائهم المظنون؛ فقُتل الآلاف، فضلا عن نهب المنازل وحرقها، والهجمات التي تتعرض لها المستشفيات، ذلك الملاذ الأخير للمستضعفين واليائسين، بالإضافة إلى فرار نحو نصف مليون، رعبا، من منازلهم. وصدق كذلك الجزء الثالث من تحذيري: تسببت الحرب في أزمة غذاء هائلة تزحف على جميع أرجاء جنوب السودان، فالعنف قد شل قدرة المزارعين على زرع محاصيلهم أو حصادها، وحال الجنود دون وصول الصيادين إلى الأنهار، وسُرقت الماشية لبيعها أو إطعام الجنود لحومها. وفي بعض المناطق يعاني طفل من بين كل 3 أطفال من سوء التغذية، التي أضحت الآن السبب الرئيسي لوفيات الأطفال تحت سن الخامسة في مخيمات النازحين. وحسب تقديرات الأمم المتحدة، يعيش 4 ملايين إنسان في جنوب السودان – أي نحو ثلث السكان – من دون غذاء منتظم، وهي معدلات حرمان لا نراها عادة إلا في المجاعات الشاملة. إن لم نفعل شيئا تجاه هذا الوضع، سينضم مليون آخرون إلى صفوف من يعانون من جوع حاد، بحلول العام القادم، ليصبح الجوع في حجم ما ورد عنه في قصص الكتاب المقدس. والأسوأ من كل ذلك، للأسف الشديد، أن كثيرا من النساء والفتيات وقعن ضحايا لمستويات مرعبة من العنف الجنسي، حتى أن زينب بانجورا، مبعوثة الأمم المتحدة الخاصة للعنف الجنسي في النزاعات، أعلنت أخيرا أن حياة النساء أصبحت الآن أكثر عرضة للخطر من حياة الجنود في جنوب السودان، فالنساء يتعرضن للاغتصاب أثناء بحثهن عن طعام يقمن به أود أسرهن، وسوف يواجهن المزيد من العنف إذا ما ازدادت أزمة الغذاء سوءا. كل ذلك يعني أن الحاجة للمساعدات هائلة وفي تزايد مستمر، وذلك بينما تكافح الوكالات الإنسانية لمواكبة الأزمة؛ حيث تعاني نقصا يبلغ 700 مليون دولار، من إجمالي 1.8 مليار تحتاجها لإيصال المساعدات الإنسانية لمحتاجيها، كذلك يعاني تمويل دعم الأعداد المتزايدة من لاجئي جنوب السودان في دول الجوار من نقص أكبر؛ إذ لم تقدم الحكومات المانحة سوى 43 في المائة من المبالغ التي وعدت بها. كانت الأمم المتحدة قد أطلقت نداء لتوفير 1.8 مليار دولار لتمويل استجابتها للنزاع وطوارئ الغذاء المتزايدة، ولكن رد الفعل كان جزئيا من بعض أركان المانحين، وافتقرنا، للأسف الشديد، إلى مساهمات من القادة الأفارقة مثل قيادة جنوب أفريقيا، وكبار المانحين على المستوى العالمي، مثل روسيا، على أن دول الخليج، مثل الكويت وقطر قادرة بالفعل على الاتساع بحجم استجابتها والتزامها بوعود التمويل. يحصل الشرق الأوسط، بلا أدنى شك، على أكثر من نصيبه العادل من تمويل الأزمات الإنسانية، ليس أقلها الاستجابة للأزمة المروعة في سوريا، والمساهمة في إعادة إعمار غزة (يؤكد فيما بعد)، ولكن جنوب السودان أصبح برميل بارود يهدد بحرق المنطقة بأسرها، بما في ذلك جيرانه إلى الجنوب والسودان في الشمال. الوقت الآن ليس وقت الإحجام عن مساعدة شعب جنوب السودان، بل علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لتفادي اتساع نطاق عدم الاستقرار إذا ما سُمح لهذه الأزمة أن تتحول إلى أزمة إقليمية. كلنا أصحاب مصلحة هائلة في تفادي أزمة الغذاء، لأن المجاعة ستكون هي عود الثقاب الذي سيضرم النيران في جنوب السودان، وسرعان ما ستنتشر تلك النيران لتجتاح المنطقة بأسرها، لذلك، فإن أفضل فرصة أمامنا لتفادي أزمة أمن إقليمية كاملة المعالم، تتمثل في منع أزمة الغذاء الآن، ونحن لا نزال قادرين على ذلك. نحن الآن في لحظة الفرصة السانحة، فموسم الأمطار، الذي يجعل 60 في المائة من طرقات البلاد غير قابلة للاستخدام، يوشك على الانتهاء، وسرعان ما ستجف الطرق الموحلة، لتسمح للوكالات الإنسانية بتقديم المساعدات إلى من يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها. تلك فرصة لا ينبغي تفويتها. على أن تلك الظروف تتيح، أيضا، للجنود والميليشيات المزيد من القدرة على الحركة، لذلك، يتعين على القادة السياسيين أن يضمنوا، الآن، ألا تتحول تلك الطرق نفسها، مرة أخرى، إلى مسارات للمذابح والدمار، كذلك يجب الحفاظ على الزخم الذي أوجدته مباحثات السلام الأخيرة، لنضمن ألا يشن أي طرف هجوما عسكريا جديدا. منذ 3 أعوام كان شعب جنوب السودان يرقص طربا في يوم الاستقلال، ابتهاجا بانتصاره في نضال التحرر الذي دام عقودا. هذا الشعب يحتاج منا الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى الدعم ليجتاز آخر دوامات العنشف ويضمن أن تكون تلك هي الدوامة الأخيرة. أبناء هذا الشعب لهم الحق، بوصفهم مواطني أحدث دولة، أن يعيشوا في سلام وكرامة. وعلى الرغم من التركيز، الذي لا مندوحة عنه، على أوكرانيا، والشرق الأوسط، والإيبولا، يتعين على المجتمع الدولي أن يساعد هذا الشعب في ساعة احتياجه، وأن يبذل الجهود السياسية اللازمة لوقف القتل. * سير جون هولمز شغل سابقا منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق إغاثة الطوارئ.. ويشغل حاليا منصب رئيس مجلس إدارة لجنة الإنقاذ الدولية بالمملكة المتحدة