|سهيل الحويك|عاشت المانيا بعد طي صفحة بطولة كأس العالم الـ 19 (2010) لكرة القدم ازمة كبيرة، ليس على الصعيد الفني ام على المستوى الاداري، بل جبهة شارة القيادة.حل واحد لتلك المعضلة كان متاحا: العودة بالزمن إلى الدقيقة 35 من المباراة النهائية لكأس الاتحاد الانكليزي في كرة القدم بين تشلسي وبورتسموث في 15 مايو 2010 على استاد «ويمبلي» في احدى ضواحي العاصمة البريطانية لندن.في تلك الدقيقة المشؤومة، تعرّض ميكايل بالاك (35 عاما)، لاعب الـ «بلوز» حينذاك، لعرقلة خشنة من قبل الغاني كيفن - برينس بواتنغ، لاعب بورتسموث، فكانت النتيجة: منتخب المانيا يخسر جهود قائده وملهمة في حملة السعي لانتزاع كأس عالمية رابعة في جنوب افريقيا.لولا ذاك الخطأ، لكانت الامور مضت بسلاسة بيد ان تأكد غياب بالاك عن كتيبة المدرب يواكيم لوف في خضم الاستعداد لمونديال 2010، شكّل كارثة في كل ما للكلمة من معنى بالنسبة إلى الشارع الرياضي في البلاد، فذاك اللاعب «الالماني الشرقي» المولود في غورليتز، هو الاكثر خبرة بين زملائه، والوحيد الذي يلعب خارج حدود الوطن في ذلك الحين ولا خلاف على ان كونه الكابتن حوّل الخسارة إلى نكسة عامة.ماذا كان ليحصل لو حذفت الدقيقة 35 من مباراة تشلسي - بورتسموث؟ كان من الطبيعي، في تلك الحالة، ان يخوض بالاك غمار بطولة كأس عالمية ثالثة بعد 2002 في كوريا الجنوبية واليابان و2006 في المانيا فضلا عن خوض بطولة امم اوروبية اخيرة في 2012، وبعدها طيّ صفحة الـ «ناسيونال مانشافت» نهائيا.ولكن هل كان لحضوره ان يعزز من روعة اداء الفريق في مونديال 2010 ويذهب به إلى حيث انتهى في المركز الثالث وربما ابعد وهل كان ليعوّض افتقاد «المنتخب الابيض» لقائد فعلي في «يورو 2012» كما بدا جليا في المباراة امام ايطاليا في نصف النهائي؟من خلال الاجابة عن هذه التساؤلات، يصبح من السهل ايجاد حل لـ «الازمة الكبرى» التي اتخذت لنفسها عنوانا بدا غريبا، للوهلة الاولى، على كرة القدم الالمانية المعروفة عبر تاريخها بالمثالية والاستقرار.عنوان «الازمة الكبرى» فرض نفسه بعد كأس العالم الاخيرة عاكسا السؤال التالي: لمن شارة كابتن منتخب المانيا؟ العنوان نفسه افرز اكثر من علامة استفهام: هل الشارة حق مكتسب لبالاك الغائب عن الولادة الجديدة لـ «المانشافت» في بلاد نيلسون مانديلا؟هل يمكن للاعب في سن بالاك ان يعود لتولي مسؤولية قيادة فريق قيل عنه انه للمستقبل؟ هل من المنصف انتزاع الشارة من الكابتن البديل فيليب لام بعد ان ادى دوره على اكمل وجه؟ وهل ان قيادة الفريق، اي فريق، تستلزم كل الجلبة التي احدثها الصراع بين تمسك بالاك بما يعتبره حقا واصرار لام على ما يراه منطقا؟وبما انه من المستحيل العودة بعقارب الساعة إلى ما قبل الدقيقة 35 من نهائي تشلسي - بورتسموث، ومن غير الممكن غض الطرف عما قيل حول ان منتخب المانيا، بادائه الفريد، كان اجمل ما عاشه مونديال 2010، كان لابد للوف من التحرك سريعا بغية حسم الامر. فهو المدرب صاحب الكلمة الفصل، وهو يدرك بان لا مجال للمهادنة او المسايرة في خصوص موضوع اخذ حجما كبيرا على مشارف تصفيات بطولة كأس الامم الاوروبية الـ 14 (2012) التي بدأها لاعبوه قبل ايام.لاشك في ان انشغال لوف وتحديدا مدير المنتخب اوليفر بيرهوف باعداد الفريق لمونديال جنوب افريقيا، والسعي لرأب الصدع الذي خلفه غياب بالاك سريعا، ساهما في ذاك القصور في الرؤية، إذ جاء تعيين لام كابتنا بديلا في حمله كأس العالم على حساب زميله في نادي بايرن ميونيخ، باستيان شفاينشتايغر، دون اتفاق مسبق على مصير تلك القيادة «العابرة» بعد «العرس العالمي».وبعد اخذ ورد، قرر لوف ابقاء بالاك كابتنا للمنتخب على رغم عدم استدعائه لخوض اول مباراتين في تصفيات كأس اوروبا 2012.ونقلت احدى الصحف عنه قوله للاعبيه في احد فنادق مدينة فرانكفورت: «حاليا لدينا باستيان شفاينشتايغر وسامي خضيرة في الوسط الدفاعي، لكن عندما يعود ميكايل إلى الفريق الاول سيكون هو الكابتن. واذا لم يلعب ميكايل، فسيكون فيليب (لام) الكابتن».وكان المدرب ابلغ بالاك بقراره في اتصال هاتفي.لاشك في ان لوف كان قادرا على تحاشي «الازمة الكبرى» فور انتهاء المونديال من خلال التمسك ببالاك كابتنا كخطوة اولى، ثم التراجع عن قراره شيئا فشيئا معتمدا سياسة اضاعة الوقت، حتى تصبح المسألة مقبولة من الاطراف كافة دون ضرورة لاستنباط اسباب من هنا وهناك، كما كان قادرا على الابقاء على بالاك دون وضع خطة لاقصائه لاحقا، الا ان سبب الارباك يعود إلى عدم حسم لوف امره بالبقاء مدربا للمنتخب بعيد انتهاء كأس العالم، لذا جرى غض الطرف عن مسألة شارة الكابتن في تلك الفترة.ولم يبُد بالاك، العائد حينها إلى صفوف فريقه السابق بايرن ليفركوزن بعد ان رفض تشلسي تجديد عقده، الرابح الاكبر على رغم استعادته دفة القيادة، إذ ولد نوع من الشك، خصوصا من قبل زملائه، حول استحقاقه قيادة المنتخب، لان المسألة لم تعرف حسما حازما من قبل المدرب، بل ترنحت فترة طويلة قبل ان تستقر لصالحه.لقد ذهب البعض إلى تحليل مفاده ان ثمة اتفاقا ضمنيا بين لوف ولام يتمسك بموجبه الثاني بشارة الكابتن، فيستغل الاول الموقف ليتخلص من بالاك، فتكون الفائدة مزدوجة، بيد ان كثيرين رفضوا هذا التحليل، وكانوا على حق، وخصوصا ان من شأنه الاضرار بصورة المدرب الحريص على بسط سلطاته على الجميع والذي كشفت الصحافة الالمانية خلال بطولة الامم الاوروبية الـ 13 (2008) بانه يجبر لاعبيه كافة على مناداته بـ «السيد لوف»، باستثناء اصحاب الخبرة منهم كالدوليين السابقين الحارس المعتزل ينس ليمان وتورستن فرينغز بالاضافة إلى بالاك.كان يمكن للوف في توقيت مناسب ان يضع حدا لـ «صراع القوة» بين لام وبالاك، والذي تحدثت عنه وسائل الاعلام المختلفة، خصوصا ان رجوع الثاني إلى الفريق في ظل تواجد الاول لن تعيد المياه إلى مجاريها بعد التصريحات العديدة، القاسية احيانا، التي تبادلها الرجلان منذ طي صفحة المونديال.وفي مقابل التصريحات الواضحة التي كان يدلي بها لام ويؤكد من خلالها عزمه التمسك بالشارة، بدا بالاك اكثر ديبلوماسية في ردوده، ربما لادراكه بان الاجواء داخل المنتخب لم تعد تلعب في صالحه، خصوصا انه لم يجد دعما مباشرا سوى من قبل باستيان شفاينشتايغر الذي زامله في بايرن ميونيخ قبل ان يحط الرحال في تشلسي ابتداء من عام 2006: «لقد اعطى بالاك الكثير للمنتخب، ولولا الاصابة لم تكن هناك اي حاجة لمناقشة موضوع شارة كابتن الفريق». ولاحقا ساند بالاك مهاجم كولن لوكاس بودولسكي، على رغم غياب المودة بينهما بعد صفعة وجهها الاخير إلى الاول في احدى المباريات.وثم من رأى بان الحل الامثل يكمن في حجب شرف القيادة عن لام وبالاك (98 مباراة دولية) ومنحه لـ «شفايني»، بيد ان الاخير لم يبد اهتماما بالامر مفضلا عدم تحمل المسؤولية.اللافت ان منتخب المانيا عّرف، عبر التاريخ، بالالتزام الخططي واللياقة البدنية والارادة الفولاذية لدى لاعبيه، وقام على اسس تنادي بتضحية الافراد في سبيل المجموع بعيدا عن اي مصالح فردية من اي نوع، كانت، بيد ان «الازمة الكبرى» بين لام وبالاك لم تكن الاولى من نوعها في تاريخ «الفريق الابيض». فقد عرف منتخب المانيا صراعات كبيرة بين عدد من لاعبيه لعل حقبة سبعينات القرن الماضي شهدت اكثرها تعقيدا بين بول برايتنر وفرانتس بكنباور.فقد كان الاول غريب الطباع، متمردا على العادات والاصول إلى درجة الاستفزاز، الامر الذي عجّل باصطدامه بالثاني المعروف بصرامته والذي كان الزعيم الفعلي في بايرن ميونيخ، حيث كان يلعب برايتنر، ومنتخب المانيا.هارالد «توني» شوماخر، حارس مرمى منتخب المانيا في مونديال 1982 قال عن برايتنر، قبل اعوام: «قوته وصلابته البدنية كانتا تثيران الاعجاب. كان يسهر في النوادي الليلية ويحتسي الخمور لوقت متأخر اثناء كأس العالم في اسبانيا، وفي الصباح اثناء التدريب، كان لا يخطئ في تمريرة واحدة».الخلافات بين برايتنر وبكنباور استمرت طويلا وألقت بظلالها على الفريق إلى ان تدخل العقلاء لاعلان فترة من الهدنة اثمرت تتويجا ببطولة الامم الاوروبية الرابعة التي استضافتها المانيا عام 1972، قبل ان تندلع الحرب مجددا قبيل انطلاق مونديال 1974 في المانيا ايضا، حين قرر برايتنر الانسحاب من الفريق نتيجة نزاع مع الاتحاد المحلي لكرة القدم، بيد ان رفاقه بمن فيهم بكنباور اقنعوه بالبقاء، فساهم في تتويج الـ «مانشافت» باللقب العالمي.وصل الخلاف إلى نقطة اللاعودة في نهاية 1974 عندما اتخذ برايتنر القرار بترك بايرن ميونيخ، قبل ان يقوم بالخطوة نفسها في 1975 عندما قرر طي صفحة المنتخب بسبب «القيصر» نفسه.عاد برايتنر إلى المنتخب في 1981 للمشاركة في مونديال اسبانيا بعدها بسنة، واحتل الفريق المركز الثاني اثر الخسارة امام ايطاليا 1-3 في المباراة النهائية.ولا يمكن الحديث عن تاريخ برايتنر (48 مباراة دولية و10 اهداف ابرزها هدف التعادل من ضربة جزاء «بنالتي» في مرمى هولندا في نهائي مونديال 1974). وصراعه مع «القيصر»، دون الاتيان على ذكر الحادثة الشهيرة التي ميّزت مباراة اعتزاله التي جمعت بين بايرن ميونيخ ومنتخب المانيا. فقد اهدى اللاعبون كرة لبرايتنر ليسجل منها هدفا للذكرى في المرمى الفارغ، بيد ان بكنباور المشارك في الفريق الآخر جاء من الخلف وسجل الهدف في مرمى فريقه حارما خصمه من لحظة احتفال.وعاد الحكم بعدها ليمنح برايتنر، الذي لعب ايضا لريال مدريد الاسباني واينتراخت براونشفيغ الالماني قبل ان يعود إلى بايرن ميونيخ، ضربة جزاء لتسجيل هدف للذكرى.صراع آخر عاشه المنتخب الالماني مطلع ثمانينات القرن الماضي بين كارل هاينتس رومينيغه، الكابتن الوحيد لفريق خسر نهائيين لكأس العالم (1982-1986) وحارس المرمى هارالد توني شوماخر، وتركز الخلاف على اللاحقية في حمل شارة الكابتن.وبلغ الامر اسوأ اطواره عندما انقسم منتخب المانيا خلال مونديال 1982 بين «معسكر بايرن ميونيخ» ويضم حلفاء رومينيغه و«معسكر اف. سي. كولن» ويضم حلفاء شوماخر، مع العلم ان الصراع ولد نتيجة التنافس الشرس بين الفريقين على درع الدوري الالماني، ويبدو ان اللاعبين نقلاه إلى المنتخب».«كاله» (لقب رومينيغه)، رئيس مجلس ادارة النادي البافاري حاليا، كان الكابتن الاول، وشوماخر الكابتن الثاني، الذي اصدر كتابا عام 1987 تحت عنوان «صفرة النهاية» كشف فيه ان 90 في المئة من لاعبي الـ «بوندسليغه» يتعاطون المنشطات، وتطرق إلى امور خطيرة وخاصة ذي صلة بزملائه في المنتخب، الامر الذي حوله إلى «هتلر صغير» بالنسبة إلى الالمان، فتحطم حلمه بالمشاركة في كأس العالم الـ 14 عام 1990، وطرده ناديه اف. سي. كولن.مرّ شوماخر لاحقا بنادي شالكه قبل ان يتوجه تحت الضغط للعب في فنربغشه التركي، ليعود مطلع تسعينات القرن الماضي إلى بايرن ميونيخ ثم يختتم مسيرته بهدوء مع بوروسيا دورتموند.لم يصل الخلاف على الزعامة والقيادة في المنتخب الالماني بين لام وبالاك إلى الحد الذي بلغه في الصراع ما بين برايتنر وبكنباور، او بين شوماخر ورومينيغه، الا ان الفارق تمثل في علانية السعي إلى السلطة، الامر الذي استوجب تدخلا، على الاقل من قبل الاتحاد المحلي للعبة وبكنباور، لتفادي وقوع معضلة مشابهة مستقبلا وهو ما لم يحصل.«الازمة الكبرى» تخطت الصراع ما بين لاعبين اثنين على شارة القيادة، لتمسّ كيان واركان كرة القدم الالمانية التي كانت تحتاج إلى الاستقرار على غنائم مونديال 2010، سعيا لرسم خارطة طريق توصل إلى سماء المجد القاري الرابع في «يورو 2012».بدا بأن «مشكلة لام - بالاك» انتهت، خصوصا ان لوف ابلغ الاخير بانه لن يستعين به مجددا في المنتخب ووجه له الدعوة لخوض مباراة دولية اخيرة مع الفريق في مواجهة الفريق خلال العام 2011.بالاك رفض هذه الدعوة، لا بل اعتبرها خطوة تمس كرامته خصوصا انه لم يكن في طور اعتزال اللعبة في حينه، حتى انه صرح خلال «يورو 2012» بانه لا مجال للصلح بينه وبين لوف ولام.يوم اول من امس امام الطليان، افتقد منتخب المانيا شيئا. قد يكون التوفيق او التركيز، لم يكن الفريق سيئا، كان على الاقل افضل من المنتخب الذي بلغ نهائي «يورو 2008» بقيادة بالاك.في ثنايا الخسارة امام ايطاليا، افتقدت المانيا إلى بالاك، ولعل لوف لعن الدقيقة 35 من نهائي كأس انكلترا بين تشلسي وبورتسموث.