ماذا يعني أن يرفع شخص ما علم بلده على منزله؟ الجواب المنطقي لا بدّ من أن يكون أن من يفعل ذلك يريد التعبير عن وطنيته وفخره بانتمائه إلى بلده. والواقع أن مجرّد جولة في المناطق الداخلية في الولايات المتحدة (قلب أميركا) كفيلة بأن تكشف أن من النادر رؤية منزل لا يرفع العلم الأميركي على شرفته، في تعبير واضح من هؤلاء المواطنين في العمق الأميركي عن فخرهم ببلدهم، ولا سيما بقواتهم المسلحة التي يأتي معظم أفرادها من أبناء الولايات الداخلية (ربما على غرار ما يُعرف في لبنان في شأن صلة أبناء عكار الشمالية تاريخياً بمؤسسة الجيش). لكن رفع العلم على شرفة منزل في إنكلترا بات يحمل اليوم معنى مختلفاً، خصوصاً إذا ما كانت هناك سيارة «فان أبيض» مركونة أمام المدخل! فقد بات مثل هذا المشهد بمثابة «دليل» إلى أن قاطني المنزل لا بدّ من أن يكونوا من فقراء المجتمع، ومن أصحاب المهن اليدوية (بدليل وجود «الفان» الذي يحمل عدّة الشغل أمام المنزل)، ومن الرواد اليوميين للحانات لاحتساء الجعة، والمعادين بطبيعتهم للأجانب. وفي الواقع، تنتشر هذه الفكرة عن قاطني المنزل الذي يرفع علم إنكلترا بين شرائح من أغنياء المجتمع، وتحديداً فئة المتباهين (snob) بثرواتهم وانتمائهم الطبقي إلى عليّة القوم، وهؤلاء من النادر أن ترى بينهم من يرفع علم بلده على منزله. ويمكن فهم أن تصدر هذه النظرة الى «الفقراء» عن بعض شرائح الأغنياء «المغرورين»، إلا أن المجتمع الإنكليزي شعر بصدمة أخيراً بعدما صدر مثل هذا الموقف تحديداً عن سياسية تنتمي إلى حزب يفاخر بأنه صوت الفقراء العمّال في المجتمع، علماً أن هؤلاء شكلوا على الدوام - من خلال نقابات العمل القوية - الوعاء الانتخابي الذي كان يحمل حزب العمال إلى السلطة. فعلى هامش انتخابات نيابية فرعية في دائرة روتشستر وستروود، التقطت إميلي ثورنبري، الوزيرة في «حكومة الظل» العمالية (تشغل حقيبة المدعي العام)، صورة لمنزل يرفع على شرفته ثلاثة أعلام لإنكلترا وأمامه «فان أبيض»، ونشرت الصورة على موقعها في «تويتر» قائلة إن الصورة «مشهد» يعبّر عن الدائرة التي تجرى فيها الانتخابات. ما لم تقله ثورنبري، لكنه كان واضحاً للجميع، هو أنها تعتبر قاطني المنزل من الفقراء المعادين للأجانب الذين سيصوّتون للمرشّح عن «حزب استقلال المملكة المتحدة» اليميني المتشدد المعادي للمهاجرين والذي فاز في الواقع بالدائرة، هازماً حزب المحافظين وحزب العمال (حلاّ في المرتبتين الثانية والثالثة). أثار نشر الصورة ضجة واسعة داخل حزب العمال الذي سارع رئيسه إد ميليباند إلى إدانة تصرف الوزيرة في «حكومة الظل» التي يقودها، كما أن ثورنبري نفسها أصدرت بياناً قالت فيه إنها «أخطأت» وسارعت إلى الاستقالة من منصبها الوزاري لتعود نائبة عادية، لكنها تريد أن تنافس على الاحتفاظ بمقعدها مجدداً في مجلس العموم في الانتخابات العامة المقررة في ربيع العام المقبل. وفي حين يحاول حزب العمال حالياً احتواء تداعيات «تغريدة» ثورنبري وصورة منزل روتشستر خشية أن تؤثرا في فرص فوزه بأصوات «الفقراء» في انتخابات 2015، فقد سارع اليمين البريطاني إلى استغلال هذه «الزلة العمالية» مسلّطاً الضوء على ثراء بعض نواب حزب العمال ومدى ابتعادهم من الشرائح الشعبية التي يقولون إنهم يدافعون عنها. فقد لفتت صحف يمينية إلى أن ثورنبري نفسها تعيش مع زوجها كريستوفر خريج جامعة أكسفورد في منزل ثمنه 3 ملايين جنيه إسترليني في ضاحية إيزلنغتون اللندنية. وتعيش مباشرة في منزل ملاصق لهما مارغريت هودج المتوقع أن تترشح عن حزب العمال لشغل منصب عمدة مدينة لندن. كما يعيش في المنطقة ذاتها وفي محيطها عدد من كبار قياديي حزب العمال وبينهم إد ميليباند نفسه (ثمن منزله 2.6 مليون جنيه)، وكذلك رئيس الوزراء السابق توني بلير وزوجته شيري (ثمن عقارهما بالملايين)، وأيضاً الزعيم السابق للحزب نيل كينوك، وكبير المستشارين الإعلاميين سابقاً في «10 داونينغ ستريت» اليستر كامبل (ثمن منزله مليونا جنيه). كما يعيش في المنطقة ذاتها ديفيد ميليباند (شقيق زعيم حزب العمال) والوزير العمالي السابق اللورد فالكونر، ووزير التعليم في «حكومة الظل» تريسترام هانت، ووزير المال في «حكومة الظل» إد بولز. ويمكن فهم تركيز الإعلام اليميني على قيـمة منازل هؤلاء القادة العماليين - التي تقدّر بالملايين - بمجرّد مقارنتها بقيمة صاحب «منزل أعلام إنكلترا والفان الأبيــض» في روتشستر داين واير الذي يبـــلغ ثــمن منـزله 119 ألف جنيه فقــط. وقد أصر واير في مقابــلات صـحافية على أنه لن يقبل اعتذار ثورنبري إلا إذا جاءت للاعتداز منه شخصياً، لكنها لا تزال ترفض ذلك.