لم يكن ابراهيم البيك، بو عبدالعزيز أعرق تجار التمور في الأحساء رحمه الله، تاجرا تقليديا له مكاتب أو إدارة أو موظفين، ولم يكن له مركز إداري ولا جمعية ولا نقابة ينظّم بها أو يساهم في حركة سوق التمر، الشايب الذي يجوب سوق التمر بالسديري الأبيض والساعة العلّاقة كان عامياً، ويجلس مع العمال يمازحهم ويوجههم والكبير والصغير يناديه ويصبح به، الله يصبحك بالخير بو عبد العزيز. يقول ابنه عبدالعزيز: كان مقصد الفقراء في محيطه يتجاوز عن المعسر ويقرض من طلب القرض ولا يأخذ أجرة العقار لمن لا يطيق تسديدها ويسقط مستحقاته من مبيعاته حين يشعر بصعوبة مالية لصاحبه. بو عبدالعزيز البيك حين كان يعبر بهدوء على السيارات والونيتات القادمة إلى سوق التمر كان يُلقي طمأنينة ومودة على ذلك السوق وارتياحا طبيعيا حين يعاين التمر ويقدره ويسومه بهدوء دون ضجيج ولا مزايدة، لكن لم تكن تلك هي القصة فقط، لم يكن بو عبدالعزيز الذي أحبه الملّاك والكدّاد والفلّاح في هذا الطريق الذي يعبر به صاحب المن والمنين والعشرة والعشرين لسوق التمر فقط، وانما كانت له قصة أخرى وعمل جبّار ضخم، يباشره بكل هدوء ولكنه فلسفة استراتيجية في معيار العرض والطلب حافظ بها البيك على سوق التمر وأكبر قدر ممكن من اقتصاد الفلاح الحسّاس المرتبط بالثمَرة كما نُعبر عنها في إنتاج الأحساء من التمور. كان الناس يأتون ويسألون وين البيك؟ يحملون معهم نموذجا من تمرهم أو كُله مزارعين كبارا أو صغارا، فإذا وصلوا إليه استقبلهم بكل بساطة وقد حدّد بو عبدالعزيز في ضميره وتقديره سعر المن في حينه أي أنه حافظ على سقف السعر وحده الأدنى، فإذا عاين التمر برفع قبضة منه إلى عينيه، ردد بهدوء: شف يا ولدي هذا علي بكذا -سعر المن 900 أو ألف أو ما شابه-، وشف السوق ان لقيت أزيد بع الله يبارك لك. وإن لم تجد لا ترجع علي رح للمزرعة -مستودع البيك- وفرّغه وتعال خذ فلوسك. هكذا يستقبل الناس بكل بساطة ويضمن لهم سوما معقولا ويفتح لهم الطريق لبيعه، ثم يقول له حتى لا يكسر ماء وجهه لا ترجع لي فقد قررت الشراء، بل خذه للمستودعات وهناك تكتب له ورقة بسيطة بالاستلام وأحيانا يقول الرجل ذلك شفويا فيقوم بو عبدالعزيز بنقده على الفور، وقد يتفق مع مزارعين كبار منتجهم ضخم رجوه تسويق تمرهم فيأخذه تحت مسؤوليته ثم يسدد لهم بعد الموسم. عقود قاد هذا الأحسائي العتيق الطيب العريق سوق التمر وحافظ على توازنه الذي اختل بعد رحيل بو عبدالعزيز لغيابه ولأسباب أخرى، ولم يعوّض حتى الآن السوق المنهار الذي لا يزال لا يغطّي قيمة ثمرته من الخلاص الطيّب ربع ما يقدمه الفلّاح من مال وجهد، ونحن نقدر النوايا المخلصة التي سعت لتطوير السوق من الصادقين الغيورين الذين لا يقدّمون مصالحهم على مصالح الأحساء وفلاحها. لكن لا تزال الأحساء تفتقد تلك المبادرات من تجّار يحملون فلسفة البيك بأطر حديثة فيسحبون الفائض ويحولونه إلى التعبئة الحديثة أو الصناعات التحويلية التي ترفع سعر التمر بما يستحقه وبما يعوض الفلاح والملّاك، إننا اليوم أمام مسؤولية عاجلة لوزارة الزراعة من ضرورة اعتماد مصنع مساند للتمور واضافة ما لا يقل عن 40 ألف طن تُشترى من الدولة وتسحب الكميات وتعيد الدولة توزيعها على القطاعات الضخمة العسكرية والمدنية، أو تزيد بها نسبتها من التبرع العيني للمنظمات الدولية والإسلامية. النخلة عمّة الاحسائيين واقتصادها التاريخي قبل النفط ويجب أن نحافظ على صمودها وتسويقها وحُسن تصنيعها والمسؤولية أيضا لتسويقها في التعبئة وتصديرها للخارج لأسواق بديلة بدلاً من سوق الخليج العربي المتخم، كما أن تشجيع الصناعات التحويلية للتمور لسكريات طبيعية لا يزال متخلفا جدا عن المطلوب محلياً وعالمياً، وهذا ممكن تحقيقه عبر قسم في المصنع الذي تنشئه الدولة، ليعوّض الفلّاح عن عرقه وجهده لتبقى قِلال هجر بركة على أهلها وكل الوطن.