شاهدت في إحدى القنوات ضيفاً سألوه عن رأيه في أمر عام، وهام، وحساس، ومحير، فتشوقت معرفة رأيه، وبدأت تحليل إجاباته المحتملة قبل أن يقولها، فكل الإجابات التي فكرت بها تسبب له مشكلة، وتفتح ثغرة يستغلها المحاور في أسئلة أكثر إحراجاً، سواءً أجاب بالسلب أو بالإيجاب، وإن قال "لا أعلم" عابه جهله في هذا الأمر لأن السؤال في مجال اختصاصه، ولا يتوقع منه أن لا يعرف الإجابة. رأيتها لحظات حرجة بالنسبة له، وتصورت أنه قد وقع في مأزق كبير، وسوف تفتح عليه تلك الإجابة أياً كانت - أبواباً من المتاعب، ولكن خيالي لم يصدقني، وحدسي لم يكن دقيقاً، فقد أجاب الضيف إجابة ذكية أخرجته من كل أنواع الحرج، ولا أعرف إن شكلت رأيه الحقيقي أم أنها كانت حيلة يتهرب بها من الإجابة، ولكن في كل الأحوال أبهرتني إجابته، وأفادتني إضافته، فبعد أن فكر لثوان قال بكل ثقة: بصراحة.. لم أحسم الأمر مع نفسي بعد! لم يحسم الأمر مع نفسه بعد! أي أنه يعرف الكثير حول الموضوع، وليس جاهلاً به، ولكنه لم يختر له رأياً بعد، ربما لا يزال يفكر، ويبحث، ويحلل، ويستزيد، وهذا أمر مقبول، بل إن فيه من التأني ما يدل على الحكمة، ومن التحوط ما يدل على الدقة، وربما لن يستطيع اتخاذ رأي محدد حتى بعد البحث والتفكر، فهناك أمور محيرة حتى على المختصين.. وربما، وربما، وربما.. ولكنه في كل الأحوال لم يحسم الأمر مع نفسه بعد. إن بساطة إجابته وعمقها جعلتني أتساءل؛ لماذا لا تبقى الكثير من آرائي تحت التفكير ودون الحسم حتى أطمئن لرأي؟ لماذا لا أضع بعض الأمور تحت البحث والدراسة قبل أن أحكم عليها؟ لماذا أضغط على نفسي أحياناً لتبني آراء قد لا أكون متأكداً منها؟ لماذا أحكم على كل الأمور العامة والخاصة أو أغلبها - وأتخذ فيها رأياً، أعلنته أو أسررته؟ إن الكثير منا للأسف يحكم على كل الأمور العامة التي يسمعها، ويقرر حول كل الأخبار التي يقرأها، فإن تطرق للسياسة كشف مؤامراتها، وإن دخل في الدين أصدر الفتاوى، أما مشكلة البطالة فيعرف سرها، ومشكلة الإسكان حلها بسيط، ومدرب المنتخب أخطاؤه واضحة، ومقدم البرنامج انتماؤه معروف.. ولا يكاد يتوقف عند أمر، فالأمور بالنسبة له واضحة، يستخدم في الحكم عليها اندفاع متهور، وثقة جاهل. يقال بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلا يمكن الحكم على أمر حتى نفهمه، وما أكثر ما الأمور التي نجهلها، ويقول الشافعي رحمه الله: كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي، فكلما زاد قوة عقل الإنسان زاد علمه بضعف عقله، وبما أن عقولنا لا تستطيع الإحاطة بكل شيء في هذا الكون المعقد، ولا أن تدرك كل الخفايا والأسرار، فإنه من الواجب على كل منا أن لا يكون له رأي في كل شيء، ولا مانع من أن تبقى الكثير من الأمور تحت البحث أو التفكير والتأمل، ولا مانع من عدم إبداء رأي في أمر ما نهائياً. لا تضغط على نفسك لتتخذ رأياً خاطئاً. لا تظلم عقلك، ولا تظلم الآخرين، لا تحكم على ما لا تعلم، فلا يعيبك أن تجهل حقيقة بعض الأمور ما دمت تتجنب الحكم على الأمور التي تجهل حقيقتها، ولست مضطراً لأن يكون لك رأي في كل أمر. عمر سليمان العريفي