ما أكثر أغاني هذا الزمان، ولكن! ماذا انتجت هذه الكثرة من قيم؟ سواءً على المستوى الديني أو الاجتماعي أو الإنساني؟ لو كانت قيمة الشيء في كثرته لكان صالحاً، ولكن مع كثرة الأغاني إلا أنها تقابل بعدد هائل من العنف والكراهية والتحريض، وهي في كل العالم -حالياً- ليست محفزة أو ملهمة للحب أو التنمية أو الكرامة سوى النزر القليل جداً جداً وليس يكاد يذكر. أغاني اليوم تحقق الوجه المادي، وليس فيها من قيم الإنسان إلا مفردة «الحب»!، أغاني اليوم تفتح قبور الكآبة النفسية، والصراع الذاتي مع الحياة، أغاني اليوم هي المهلكة المدمرة للقيم الإنسانية، وذلك على عكس الأغنية قديماً، فقد كانت الأغنية هي الحياة بكامل تفاصيلها، ومع كل ما فيها من قيم إنسانية وتعبيرات جسدية إلا أن فكرة «التوحيد» حاضرة فيها، فالأغنية الشعبية القديمة في كل الحضارات تستحضر «الله» تعالى في سياق المعاناة التي يعيشها الشاعر، والمغني على السواء، ووجود الله في الأغنية هو حالة الأمان والتوازن، وبذلك تصير الأغنية ذات جرعات إيجابية وليست سلبية، وتصير أغنية مليئة بالطاقة، وليست سالبة لها، وهي أغنية رافقت ذلك الإنسان في كل أعماله وحرفه، ورافقته في حضره وسفره، وفي طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته، وبذلك اكتسبت أن تكون أغنية طبيعية شعبية صالحة للتداول في كل تفاصيل الحياة. لم يصلنا في السابق أن المغني شعر بالضيق، أو العذاب النفسي فقرر التوبة من الغناء! ولكن فكرة التوبة من الأغاني حاضرة بقوة في هذا اليوم، وهي هاجس محيط بكل مغني، وفكرة التعب النفسي تطارده صباح مساء! مصحوبة بكلام المجتمع والفتاوى التي تطارده في كل وقت، والسبب للتوبة ليس من ممارسة الأغاني! ولكنه بسبب اجتماعي صرف، وأيضاً بسبب أن الأغاني ابتعدت عن نظام قديم كان يرى أن وجود «الله» في الشعر والأغنية هو الحقيقة المؤدية للأمان، ولكن الأغنية المعاصرة لما ابتعدت عن «الله»، فقد تجردت من القيم، وخرجت لتصير أغنية لا تحفل بغير «الحب»، وغالباً الحب الجسدي، وثقافة الصورة في الفيديوكليب قد عززت هذا الاتجاه في الأغنية، المغني القديم كان يحب أيضاً، ولكنه كان يستعين على عذاب الحب ومعاناته بالالتجاء الى الله، حيث يبدأ أغنيته بموال فيه سؤال لله واستعانة به من آلام الحب، وجور الحبيب، ثم يغرق في وصف جماليات المحبوب الروحية والجسدية، ولكنه في الختام ينتهي بالصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. صحيح أن هذه البنية هي بنية تقليدية لا تعجب أنصار الحداثة وما بعد الحداثة في الفنون، ولكنها كانت هي السياج الذي ضمن للأغنية والمغني والمستقبِل لها أن يكون متوازناً، وأن يكون أكثر وعياً بمكتنزاته البشرية ما بين الروحي والجسدي، ولذلك فصورة العاشق في الأغاني والأفلام القديمة هي صورة للعاشق الذي جعل من الحب ستراً على محبوبه، وليس كشفاً وفضيحةً ونزوةً عابرة! الأغاني اليوم ليس فيها موضوع إلا موضوع «الحب»، ولكنه الحب بفكرته الجسدية الرخيصة، وليس بفكرته الإنسانية ذات الأبعاد الروحية والصوفية كما كانت في الأغنية الشعبية العربية، كان المغني يرمّز ويورّي ويستخدم المجاز والاستعارة، ويتلقاها المتلقي بكل اعجاب وقبول، أما مغني اليوم فهو ينحو إلى المباشرة والسطحية والتسطيح والاستجابة لمتطلبات السوق، وليس لمتطلبات الإنسان، بدليل أن بعض المغنين والمغنيات الشباب لما غنوا أغاني تراثية قديمة برزت شخصيتهم الإنسانية، وأظهروا للشباب نوعاً من الأغاني الرائعة لم يكونوا يعرفونها. إذا أرادت أغاني اليوم أن تكون خالدة، فلا بد أن تستلهم النظام القديم، وتبني عليه تجديداتها، وإلا فلن تكون الأغاني إلا سلعة استهلاكية لوقت وجيز.