×
محافظة المويه

تجربة خالد الفيصل - د. محمد القويز

صورة الخبر

ذلك ما يَحضرني عن علاقتي بالعلامة [حمد الجاسر]. وهو نزر قليل، لا يأتي على كل الذكريات، ولكنه جهد المقل، وما على أعرج الذاكرة من حرج. أما الشاعر اللغوي الأديب [عبدالله بن خميس] رحمه الله، فلم أكن معه مثلما كنت مع الجاسر. إذ ربما حال بيني وبينه اهتمامه بالشعر الشعبي، وسوء الفهم لرؤية كلٍّ مِنَّا ، ومحاولة تحريضه عَلَيَّ من قبل الكتبة الذين يعشقون الإثارة. وعداوة الصحفي بئس المقتنى. لم أجرؤ على مواجهته بما أرى، ولم أكن في حقيقة الأمر مختلفاً معه، بالقدر المتصور، فأنا لست ضدَّ الإبداع العامي، من حيث التذوق، ولكني ضد اتخاذه أدباً يُدْرس ويُدَرَّس، كما الشعر الفصيح. وأحسب أن ابن خميس من الحب للغة العربية، والغيرة عليها، بحيث لا يرضى بها بديلاً. لقد ضِقْتُ ذرعاً عندما أصدر كتابه [الأدب الشعبي في جزيرة العرب] وهو متزامن مع كتاب عميد الرحَّالين، الشيخ محمد العبودي [الأمثال العامية في نجد] وكلا الأديبين العالمين من أنصار اللغة العربية وآدابها. وأزعم أن مقالة الدكتور [طه حسين] عن الأدب في الجزيرة العربية، الذي أشاد فيها بالأدب العامي، والشعر العامي، قد أوحت إليه بفكرة التأليف عن هذه الظاهرة غير السوية . الأشد غرابة في الأمر أن ابن خميس شاعر فصيح، جزل العبارة، قوي السبك، شديد الغيرة على اللغة. وهو فوق هذا عُضْو في مجمع اللغة العربية، وقد تقصى جهوده في مجمع الخالدين الدكتور محمد الربيع، في كتاب متداول. واهتمامه بهذا اللون يوحي بتذوقه، وتعلقه بالشعراء العاميين أمثال [راشد الخلاوي] الذي ألف عنه كتاباً.وفي برنامجه الإذاعي المتميز [من القائل] تفسح للشعر العامي، وقد برع في التنقيب عن عيونه، و ربطه بالشعر الفصيح، لغة، وشكلاً. كان ابن خميس كاتباً متميزاً، وصحفياً بارعاً، وإدارياً صارماً. وله خصومات بلغت الذروة مع لداته ومجايليه.صدر له حتى الآن ثلاثة دواوين من الشعر الفصيح المنتمي لشعراء الاحياء، كـ[البارودي] و [ابن عثيمين]. لم أظفر إلا بالديوان الأول [على ربى اليمامة]، وقد طبع أكثر من مرة، وفي كل مرة يزيد في تنقيحه، والإضافة إليه. وهو معدود من شعراء المناسبات. وبعد كبر سنه، وضعف بدنه، هُيِّءَ له من يتعقب آثاره الشعرية والنثرية بالجمع والدراسة. فالدكتورة [هيا السمهري] لها عملان أكاديميان، هما رسالتاها في الماجستير والدكتوراه، وهي التي جمعت ديوانه الثالث، وأصدرته. ولست بصدد تقويم أعمالها، فالمنهج السيري لا يتسع لمثل ذلك. عرفت ابن خميس قبل معرفة الجاسر، ولكنني خالطت الجاسر، وألفته أكثر من ابن خميس. فابن خميس فيه أنفة، واعتزاز بذاته، وعمله الوظيفي نَدَّ بِهِ عن مجتمع الأدباء. ولم أجرؤ على القرب منه، وإن كنت من المعجبين به المشفقين عليه. أنشأ [مجلة الجزيرة] وكانت متزامنة مع [مجلة الإشعاع] التي كان يصدرها الأستاذ [سعد البواردي] من المنطقة الشرقية و [مجلة الرائد] التي كان يصدرها [عبدالفتاح أبو مدين] من المنطقة الغربية، ناهيك عن [مجلة اليمامة] التي أصدرها الشيخ حمد الجاسر. كنت إذ ذاك شاباً يتهافت على الصحف والمجلات، ويود لو كان مذكوراً فيها. ولأني وَفَّيْتُ علاقتي بالصحافة في موقع غير هذا من السيرة، فإنني لن أفصل القول هنا عن تلك العلائق، فهذا من باب الإعادة والتكرار. قد تكون علاقتي المبكرة بالأستاذ [عبدالله بن إدريس] من أسباب ابتعادي عن ابن خميس. فالرجلان خصمان لدودان، وقد فَصْل [ابن إدريس] في سيرته الذاتية بواعث الاختلاف بينهما. الشيء الغريب أن ابن ادريس في كتابه [شعراء نجد المعاصرون] لم يترجم لابن خميس، مع أنه من أفضل الشعراء، وانداهم صوتا، وذلك من أقوى المآخذ عليه، وإن برر تصرفه ذلك، وأشاد بالشاعر فيما بعد، ولكن يظل الخلاف قائماً بينهما، فابن إدريس من ألد خصوم الشعر الشعبي، وحين أطلعته على مخطوطة كتابي [الإبداع الأمي المحظور والمباح] استنكر كلمة [ المباح] وعَدَّ ذلك تراجعاً مداناً. واختلاف الرجلين لم يكن قَصْراً على تلك القضية، ومن أراد استقصاءه، فليقرأه في السيرة الذاتية لابن إدريس [قافية الحياة]. قلت إن ابن خميس كان في شبابه، وكهولته عنيفاً في القول والفعل، ولكنه على جانب كبير من الخلق الرفيع، والعلم الغزير، والإبداع المتميز. اهتم بجغرافية اليمامة، وتاريخها، وجبالها، وأوديتها، ونقلها بأكثر من كتاب. لقيته في آخر أيامه، حين زار [منطقة القصيم] بدعوة من مدير عام التعليم الأسبق الأستاذ [صالح التويجري]، بعد أن وهن عظمه، واشتعل رأسه شيباً، وفقد القدرة على الاسترسال في الكلام، وضعفت ذاكرته. كان يومها لين الجانب، ودوداً، حفياً بمن حوله. وحين عَرَّفْته بنفسي أنكر ذلك، مؤكداً معرفته بي. ولقد أشرت من قبل عند حديثي عن العَلامة حمد الجاسر عن أول تواصلي المباشر به، حين تلقيت دعوة موقعة منه، ومن العلامة حمد للإسهام معهم في إنشاء نادي الرياض الأدبي، وذلك في عام 1395هـ، على ما أذكر، و لم يتسن لي ذلك، لعودتي إلى القصيم بعد إكمال الدبلوم العالي التربوي بجامعة [الملك سعود]. في شهر ربيع الثاني من عام 1435هـ، حضرت اللقاء العلمي عنه، وقد تفضلت [دارة الملك عبدالعزيز] بدعوتي لحضور الفعاليات، وكانت تلك الدعوة فرصة طيبة، جمعتني بأسرة الأديب، ومحبيه، والمسهمين بدراسة أعماله الأدبية، والجغرافية، والإبداعية. والكلمات والدراسات التي القيت أسهمت في تجلية جوانب من حياته، لم نكن على علم بها من قبل، وبخاصة الجلسة الأولى التي خُصِّصت للروايات والذكريات، وتحدث فيها المخالطون للأديب والقريبون منه في حياته. الشيء الذي لم تظفر به المؤسسات الثقافية تكريم الأحياء، وإدخال السرور على أنفسهم، فتكريم الأموات فيه خير كثير، ولكن الأفضل منه مبادرة الأحياء.وهذا الفعل مُوْرس ببطء، وتسويف، وهو الأهم، فالمشاهد مليئة بالعلماء والأدباء والمبدعين، ورجال الأعمال، والإدارة، وكبار المحسنين الذين يدور في خلدهم قول [المتنبي] [لكافور]:- [ أبا المِسْكِ هَلْ فِي الكَأْسِ فَضْلٌ أنالُه: فإني أُغَنَّي مُنْذُ حِينٍ وَتشْرَبُ] لقد أعطوا كثيراً مثلما غَنَّى المتنبي كثيراً، ولكنهم لم ينالوا التقدير الذي يليق بهم. ولقد يُكَرَّمُ من دونهم لتأليف القلوب، وكسب الأصوات، فيما يترك المواطن لمواطنته، وذلك بعض ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، حين وزع الغنائم على الطلقاء في [غزوة حنين] ووكل المهاجرين والأنصار لإيمانهم، وحين وجدوا في أنفسهم، قال لهم الكلمة التي أبكتهم، وزهدتهم بلعاعات الحياة :- [أترضون أن يعود أولئك بالشاة والبعير، وتعودون برسول الله] قالوا جميعاً نرضى. مع كل هذا لابد أن تفكر المؤسسات الثقافية بتكريم الأحياء، وإشعارهم بمكانتهم، وحث من دونهم على تلقي الرايات، ومواصلة المسيرة، إذ ليس من مصلحة الأكفاء أن يتحسروا على ما فاتهم، ويرددوا مع شوقي:- [أَحَرَامٌ على بَلابِلهِ الدَّوْحُ :. حَلالٌ للطَّيْرِ مِنْ كُلِّ جِنْسِ] لقد شاهدت الحضوة، وحرارة الاستقبال للمدعوين لحشودنا الثقافية، فيما تظل الكفاءات الوطنية تخدم نفسها بنفسها، وتزاحم بالمناكب، لتحتل مواقعها الطبيعية. ويقيني أن مثل هذا التقصير من التصرفات الشخصية من البعض، لا يقبل بها كبار المسؤولين. وكم خاب ظننا بمن صنعنا منه أبهة، وأغضبنا بتكريمه الأقربين. والبعض منا بدافع الطيبة، ينفخ في البالونات الفارغة. و أذكر أن الشاعر المدني [محمد هاشم رشيد] رحمه الله انطلق للسلام الحار على أحد المدعوين، فلم يحفل به، بل مَدَّ أطراف أصابعه بكل برودة، وهو يكمل حديثه مع أحد بلدياته، فما كان من شاعرنا الرقيق إلا أن عاد في حالة سيئة، فقلت له: أنت الذي عَرَّضت نفسك للإهانة فـ[ يداك أوكتا و فوك نفخ]. لقد كان يكفيك أن تصافحه إذا لقيته، لا أن تنطلق إليه، وكأنك تَسْتبق المجد، أو الثراء. لا أمانع من إكرام الضيف، وما دُعِيَ أولئك إِلَّا لإكرامهم، وكسب ودهم، غير أن الأقربين أولى بالمعروف. وكم حضرت مع لداتي مؤتمرات في مصر، والعراق، والشام، والمغرب، وسائر العواصم العربية، ولم نجد ما يجده غيرنا في بلادنا. حتى لقد يتصور البعض منهم أننا قرويون مبهورون، وما أحد منهم يبلغ مُدَّنا، ولا نصيفنا، ولكنها عقدة الخواجة أعاذنا الله منها.وقديماً قيل :- [أزهد الناس بالعالم أهله]. ومع أن ابن خميس لم يبلغ أرذل العمر في آخر لقاء معه، إلا أن ذلك الوهج الذي كنا نعايشه، ونهابه قد خبا، فلم يكن يحفل بالقول حتى يَسْتدرجه ابنه بإنشاد مطلع قصيدة، فيتمها بتلعثم. ما أوده لعوالمنا الأدبية، والثقافية، والفكرية أن تظل متماسكة بعد رحيل العمالقة، وألا نكون كمن يردد [لم يترك الأول للآخر شيئا] إذُ ربَّ و ارثٍ أوعى من مُوَرِّث على سَنَنْ:- [إذَا طلَّ مِنَّا سَيِّدٌ قامَ سَيِّدٌ : قَؤُوْلٌ لِمَا قَالَ الكرمُ فَعُولُ]