×
محافظة رنية

الشيخ ابن عسيم لـ”أضواء الوطن”: مدفع الإفطار ولقيمات الوالدة.. ذاكرة لا تغيب

صورة الخبر

في خضم التغيرات المتسارعة التي يشهدها المجتمع السعودي، يظل شهر رمضان حاضراً في الوجدان كأحد أبرز المواسم التي تختزن في ذاكرتها عبق الأصالة، ودفء العلاقات، وجمال البساطة. ورغم أن مظاهر الحياة المعيشية تغيّرت كثيرًا في العقود الأخيرة، إلا أن ذكريات رمضان في الماضي لا تزال حية في قلوب من عايشوها، كدليلٍ على عمق الروابط المجتمعية، وصدق الشعائر، ونقاء التفاصيل. في هذا اللقاء الصحفي، نحاور أحد رجالات محافظة رنية البارزين، الشيخ عبد العزيز بن محمد آل عسيم، مؤذن الجامع الكبير، الذي عاش تفاصيل رمضان في زمن كانت القيم فيه تُصاغ على مائدة بسيطة، والإيمان يُبنى في ظلال المحبة، والتكافل، وروح الجماعة. نستعرض معه ملامح ذاك الزمن، ونقارنها بواقع اليوم في محاولة لاستحضار الجوانب المضيئة من ذاك الإرث الروحي والاجتماعي. س: كيف كنتم تستقبلون رمضان في طفولتكم؟ ج: كان استقبال رمضان في الماضي يحمل نكهة خاصة لا يمكن أن تُنسى. ننتظره بلهفة كبرى، وكان إعلان دخول الشهر بمثابة مناسبة فرائحية تُضاهي العيد. نرتدي الملابس الجديدة في أول يوم من رمضان، ونتهيأ نفسيًا وبدنيًا للصيام، رغم أن الصيام لم يكن مفروضًا على الصغار، إلا أن حب الشهر، ورغبتنا في نيل الأجر، كانا يدفعاننا لخوض التجربة بكل حماس. والبيئة الأسرية كانت محفّزة، تشجع وتغرس فينا حب العبادة دون ضغط أو قسر. س: ماذا عن مائدة الإفطار في تلك الأيام؟ ج: مائدة الإفطار قديماً اتسمت بالبساطة والبركة، وكانت خالية من المبالغات. نبدأ غالبًا بالتمر والقهوة واللقيمات، ثم نذهب مباشرةً لصلاة المغرب. العبادة كانت أولويتنا. بعد الصلاة نعود إلى المنازل لنكمل الطعام، وغالباً ما يكون من الأكلات الشعبية مثل الجريش والمرقوق والهريس، وأحياناً الرز باللحم إن توفر. كنا نعيش على القناعة والرضا، ولم يكن هناك اهتمام بالكثرة بل بالنفع والبركة. س: كيف كانت تُقام صلاة التراويح، ومن كان يؤمّكم؟ ج: صلاة التراويح كانت محطة روحانية عظيمة، وكان يؤمّنا والدي الشيخ محمد بن حامد –رحمه الله– بصوته الشجي وخشوعه الذي يلامس القلوب. كنا نذهب إلى المسجد مشيًا، صغارًا وكبارًا، والجو العام يغمره السكون والطمأنينة. بعد الصلاة، يجتمع الناس في ساحات المسجد أو في أحد البيوت لتبادل الأحاديث الرمضانية، ثم يعودون إلى منازلهم استعداداً للسحور. س: ما طبيعة وجبة السحور في ذلك الزمن؟ ج: السحور كان بسيطًا لكنه مشبع. غالبًا ما نكتفي بالتمر أو الخبز واللبن، وربما “المريس” أو “العريكة” بحسب المتاح. كانت الأمهات يجهزن السحور بأنفسهن، بروح مفعمة بالحب والعطاء. لم تكن هناك مشروبات صناعية ولا أكلات جاهزة. وبعد تناول السحور، نذهب إلى المسجد لصلاة الفجر، ثم نأخذ قسطًا من الراحة، ومن كان لديه عمل، يبدأ يومه مبكرًا دون كسل أو تذمر. س: كيف كنتم تقضون ساعات النهار الرمضاني؟ ج: كانت النهارات الرمضانية تسير بوتيرة هادئة، يتخللها التكافل والتراحم. بعد صلاة الظهر نذهب إلى المزارع، نستظل تحت النخيل، ونبحث عن البرودة، حيث لم تكن هناك مكيفات. نعتمد على “النوافير” أو القدور المبردة بالماء. العصر نصليه في المسجد، ثم نعود لمنازلنا أو نذهب إلى الحلال لمن كان لديه ماشية. وقبيل المغرب، تبدأ التحضيرات البسيطة للإفطار، وكل شيء يسير بروح جماعية صادقة دون ضجيج أو مظاهر مبالغ فيها. س: كيف كان يُختتم رمضان وما الطقوس المرتبطة بنهايته؟ ج: من أبرز الطقوس التي كنا نحرص عليها زكاة الفطر. كل فرد يخرج زكاته بنفسه، بتوجيه من الوالد أو كبار الأسرة. نشعر بالمسؤولية منذ الصغر، وندرك قيمة التكافل. بعد صلاة العيد، تبدأ الزيارات الاجتماعية، ويستقبل الأطفال العيدية، وتكون الثلاثة أيام الأولى مليئة بالفرح والبهجة، والجو العام يعكس روح الألفة والتراحم. س: كلمة ختامية تودون توجيهها للأجيال الجديدة؟ ج: أوصي الجيل الجديد بأن يدرك أن البساطة ليست نقيضًا للتقدم، بل هي عنوانٌ لنقاء القلوب. في الماضي، كنا نعيش برضا رغم شح الموارد، لأن النفوس كانت قريبة من الله، قريبة من بعضها. وأتمنى أن نستعيد بعضًا من ذلك النقاء في حياتنا اليوم، في ظل ما نملكه من وسائل الراحة والتقنية. وأسأل الله أن يبلغنا وإياكم رمضان أعوامًا مديدة، ونحن على الطاعة مجتمعون، وعلى البر متعاونون. في نهاية اللقاء : يظل رمضان في الذاكرة الشعبية أكثر من مجرد موسم ديني، بل هو إطار جامع لهوية المجتمع وتاريخه وثقافته. من خلال هذا الحوار الصادق مع الشيخ عبد العزيز بن محمد آل عسيم، نلمس عمق التحولات الاجتماعية والروحية التي مرّ بها الشهر الكريم بين الأمس واليوم. ورغم تغير الزمن، تبقى القيم الأصلية التي نشأ عليها الآباء، كنوزًا يجب أن تُروى للأجيال، وتُحفظ في ذاكرة المجتمع كجزء من هويته ووجدانه