كان يوما شاقا ومشوقا .. ملهما حد الرثاء وبعض الخزي .. في اللحظة الأولى التي شاهدته فيها واقفا عند الملحق الثقافي السعودي ، حدث أن تدفق الدم بكثافة على وجنتاي وسرت انقباضات طفيفة على معدتي تيقنت ثم احترت من شدة اليقين هل هذا هو بعينه ؟ .. لا ليس هو! لا بل هو !! أنا متأكدة هذا الوجه لا ينسى استحالة أن تتمرد ذاكرتي وتنساه.. كان يقف مع رفاقه يتحدث ويديه اليمنى ترتفع وتنخفض وكأنه يحمل ختم منقوش يختم بها أقواله المنزلقة من شفتيه الضيقه. قلت في سري : تبا لك ، أنهِ ثرثرتك هذه وسألعنك . اتكأت عيناي على هيئته الشكلية في انتظار إنهاء حديثه وبلوغه لحظة صمت لأبدأ عليه بالهجوم ، لم أكن لأطيق صبرا ، في الواقع هو كما التلفاز لا جديد ! بوجهه المكتنز الذي يشبه عجينة تمددت فاكتسبت شكلا بيضاوي- كفطيرة- تنتظر حشوها باللحم المفروم ، وعلى رأسه غرس كاب بالي زيتي اللون ،وبين رأسه وجسمه رقبة ضيقة كشفتها ياقة قميصه المقلمة. كرشته متوازنة في تمددها آخذة بذلك كرشة طفلا في الشهر السابع مدلل عن الحركة، لا يحرك فمه سوى لبلع طعامه المهروس ويصرخ للمزيد .. ساقيه بالبنطال تبدوان كجسر العوارض كتلة واحدة ملتحمة. بالإجمال أعطيته صفر من مائة على ذوقه في اختيار اللبس ودمج الألوان .. أنه كارثة بحق .. اتضح لي رحمة الزى السعودي ؛ في حفاظه على الذوق العام من فظاعة اختيار الهندام والتي قد ابتلي بها هو وأغلب الرجال . انتهى أو خيل لي أنه أنتهي من النقاش فأندفعت مسرعة إليه ،عاقدة الجبين : اسمع أنت شوهت جيلي ،وأنت المسئول عن ذلك . نظر لي بتعجب: أنا ؟ قلت بصوت عالي: نعم أنت كيف لك أن تشبهنا بالبقرة ثم تدعي أن ركبنا سوداء ها ؟ قال مستغربا: ما بك ؟ اسمع ما رأيك أن تقرأ لي كتابي الجديد المختصر في سيرة المندي المنتظر ؟ فقلت بتعالي: أهديني إياه . فقال بتهكم : حسنا يا شحاذة سأهديك إياه وكتب إهدائه كالتالي (إلى الأديبة الصاعدة والواعدة دانيه المرزوق إليها وهي القارئة الجادة إليها أهدي هذا المندي لعلها تأكله من غير ملعقة لأن الأكل بالملاعق بدعة .. وأنهي إمضائه : أخوك الأكبر سنا وعقلا أحمد العرفج 7-11-2014هـ) فقلت بفخر : سأغرقك كرما وأهديك روايتي . فقال : دمك خفيف .. أتحداك أن تقرئي كتابي كاملا لتناقشيني فيه غدا. حز في نفسي أنه لم يسألني عن روايتي ، فقد صممت على ذكرها لأثبت له قدرتي وقدرة أي امرأة سعودية على العطاء الأدبي ، وأن سخريته اللاذعة في تحجيم عقليتها لتشبه البقرة ليس إلا إفتراء عظيم لا يليق بها ، لكنه لم يكترث بل تحداني بقراءة منديه المنتظر . تساءلت حينئذا لربما يفتقر هو لشئ ما يكشفه لي كتابه فأواسيه عليه وامنحه القليل من الغفران .. ربما طفولة مرة أوعقدة من امرأة .. لم يخطر لي أن أطرح على نفسي سؤالا ،وهو لربما يجدني أفتقر لشئ ما سيكشفه لي كتابه .؟! ****** عدت للفندق في تمام الساعة العاشرة مساء كنت منهكة حينها من التسوق في معرض الشارقة الدولي للكتاب، رميت بالأكياس ، وقذفت بحذائي ذي الكعب العالي ثم بعثرت بين أكياس الكتب لأخرج كتابه وأنا أحدث صديقتي بسخرية: أقرب عنوان يجي في بال أي واحد دبه هو المندي ثم قلبت الكتاب بين يدي . وقرأت الصفحة الأولى ضحكت على قول والدته ( كنت مشغولة با الآلام ، ولا أتذكر اليوم أو الشهر أو السنة من شدة الألم ، لأتك أتيت مربربا ) ما فأجأني صفحة بعد صفحة تلك القدرة السجعية في الكتابة وكأنها لا ارادية تأتي كاللدغة معه ، وحس الفكاهة التلقائي عنده مثل : ( بقي القول ،إنني أتقبل التاريخ بنكباته ، والأعوام بطاماتها ، والسنوات بمغصاتها ، فنحن أمة اعتدنا الحزن الكربلائي ، والمائي ، والبرمائي) وتصويره عن الكاتب الذي يلوم الصحيفه عن منعها مقالته ، فقال: ( أن فوائد مقالته لا تختلف عن الفوائد التي يستمدها لي الشيشة الذي يحشره في فمه ) ثم مطيت شفتي وأخذت وضعية تليق بكتاب سأبارحه لفترة من الزمن ففي قوله : ( لم أموسق – من الموسيقى- كلمة يابابا في كل حياتي ولم أترنم بها كغيري من الأولاد الأشيقاء ) كنت كبحيرة راكدة قذفها بحجرة فخلقت داخلي دوامة حزن صغيرة على يتمه المبكر ، لكن سرعان ما استعاد ضحكتي عندما مارس حيلة الفخفخه على اصدقاءه عندما ركب سيارة المرسيدس مع احد اقاربه: ( هل تصدقون يا شباب ،أن مكيف المرسيدس ليس بالجودة التي يتصورها الناس؟ فهو لا يجيد التبريد .. وبعض من فهلواته في ممارسة الكتابة الصحفية معتمدا على تزوير هويته فقال : (هذا الإحباط جعلني أبتكر طريقة جديدة حين قلت لنفسي :يا أحمد يا ولد يا فنان ، لماذا لا تكتب ، وتراسل الصحف على أنك فتاة ، لترى كيف تسير الأمور؟) ثم بالتدريج أكتشف عمق تفكيره وجديته ريثما لعب دور الموجه في قوله : ( إن الرأي لو جاء من أي شخص –كائن من كان- هو في النهاية رأي فرد ، لأن الفرد إذا لم يرجع إلى المراجع لتأصيل فكرته ، فهو إما قبيح أو ناقل جاحد وهاتان الصفتان كلتاهما قبيحتان !) وقوله ( مهمة الكاتب تتلخص في إعطاء قيمة ثقافية إضافية للقارئ ولم ولن يكون الكاتب ، يوما، موظفا عند القارئ وإن كان يسعى إلى التحاور والتجادل معه) كثيرا ما يهتم بالتفاصيل الصغيرة فذكائه يلمع في اكتشاها في قوله : ( إنني اتعجب من شخص يستخدم سيارته لسنوات ، ثم يذهب لبيعها وهو يلعن سلسفيلها ويلعن الساعة التي اشتراها فيها .. فهل هذا من الوفاء يامن تدعون الوفاء؟ ) وأن بعض النساء تتعامل مع المنتوجات والتي لقبها بي : أصدقاء الجسد . ترميها شر رمية ولا غرابة فهي تكفر العشير ، فما بالك بقطعة قماش؟) والعرفج يعلم تماما إلى اين يصل به إبداعه الكتابي فهو مؤمن بإبتكارة للفظ ( مقالة جماعية ) و التي على حسب تعبيره تكن طافحة بالشواهد والأدلة عن مؤلفين وكتاب سابقين . وكوني فتاة عجولة متيقظة كالسنجوب على بندقته مرر لي كتابه نصيحة لا في الحقيقة مجموعة من النصائح أبرزها ما علق في ذهني قوله : ( ظاهرة محاكمة الأشياء قبل قراءاتها ، قد تكون موهبة إبداعية بحيث أصبحنا نعرف ليالي العيد من عصاريها وهذه مرحلة متقدمة من مراحل التنبؤ والإبداع والإلهام ، وكما يقول علماء الذكاء ، لذلك لا أنصح أحد بشراء الكتاب وقراءته ، ويكفي أن تعرفوا ان هناك عامل معرفة اسمه عرفوجي ) نعم كنت كما لو أني في عطارة لبيع التوابل ذي الصناعة العرفوجية بجودة محلية ذقت ماطاب لي ،وبصقت بمالم يطب لي من سخريه . وكرأي شخصي ،لقد اتضح لي بأن المندي هو العرفج بذاته ،وأن المشهيات التي توزع بجانب طبق المندي ما هي إلا أفكاره التي توجتها سجعيته ، والتي غيرت من طعم شكله البسيط . سرعان ما أخرجت روايتي ،وسحبت غطاء القلم ، ودون ترتيب مسبق للكلمات ،فتحت على الصفحة الأمامية من روايتي ( أكثر من امرأة ) وكتبت : تأكد أننا سنبكيك يوما . فالجمجمة التي رغبت يوما برفسها ،ها أنا أدعو الله أن تبقى مكانها . وأن رداءه الذي تقززت منه علمت أنه أكثر حرصا من ستر عورته على الإهتمام بمدى تناسقه . ****** وفي اليوم التالي قدمت له روايتي دون أن يكن بيننا أي نقاش يذكر ، فقد أكتفيت بسيرة منديه المنتظر. رابط الخبر بصحيفة الوئام: ليلة مع مندي العرفج