إنها عطلة منتصف العام الدراسي في مصر. يمثل شهرا كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) وقتاً للترفيه والراحة، وفي أقوال أخرى مناسبة للنقاش والسجال حول ما يتعذر النقاش فيه في بقية شهور العام، بسبب الانشغال أو الإحباط أو عدم الاهتمام. المشهد العام في المحافل الشبابية هذه الأيام لا يعكس سياسة، ولا يكشف عن جدال، ولا يحمل خلافات واختلافات إلا في ما ندر، والمؤكد أنه لا يحمل أية روائح أو نسائم ثورية أو تلويحات تظاهرية. «التظاهر بأن الشباب يشتاق إلى التظاهر هو عين النصب والاحتيال» يقول الضيف التلفزيوني في أحد البرامج الحوارية. وعلى رغم نبرة التعالي، والميل الى التشفي، وبزوغ روح الانتقام في صوت «الخبير الإستراتيجي» الطاعن في السن والذي تعرض في شهور ما بعد «ثورة يناير» لهجوم ساخر من شباب الثورة الذين طالبوه بالتنحي والتوقف عن التنظير، إبان الدفع بهم إلى واجهات الشاشات باعتبارهم أيقونات الثورة ورموزها وأسياد المجتمع وحكماءه، إلا أن ما قاله يحمل قدراً كبيراً من الصحة. صحة التقرير الصادر عن «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» تحت عنوان «نحو الإفراج عن مصر» والذي يتناول الموقف القانوني لقانون التظاهر المثير للجدل سابقاً ليس مطروحاً للنقاش أو التشكيك أو حتى التحليل هذه الأيام. فالتقرير الذي يصف قانون التظاهر المعمول به في مصر حالياً بـ «القانون الساقط» وذلك «لأنه تم إلغاؤه بإجماع أعضاء البرلمان المصري قبل 89 عاماً، وتحديداً في 30 كانون الثاني عام 1928 لا يجد آذاناً صاغية، أو عقولاً مهتمة، أو حتى قلوباً راغبة في البحث فيه والتغريد والتدوين عنه. مثل هذا التقرير لو صدر قبل أربعة أو ثلاثة أعوام لكان له وقع آخر. فحتى إعلان المركز عن تقدمه بطعن أمام محكمة القضاء الإداري للمطالبة بنشر قانون إلغاء قانون التجمهر ووقف العمل بالقانون الحالي و «الذي يعد السند القانوني الأساسي في توقيع عقوبات جماعية بالسجن على آلاف المتظاهرين السلميين منذ تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2013» لم يلق اهتماماً يذكر، إلا من قبل فئتين من الشباب وبأعداد قليلة جداً. شباب الإخوان وشباب اعتنقوا الثورة يدونون ويغردون مطلقين العنان لمشاعر غضب وإحباط سواء لانقشاع حكم الجماعة للفئة الأولى أم لتبدد فكر الثورة للفئة الثانية أم لانصراف الغالبية العظمى من الشعب بعيداً عن هذه وتلك. شباب الجماعة والثورة يحيون هذه الآونة كل تفصيل صغير من تفاصيل «ثورة يناير»، والمناسبات التي تلتها في سنوات لاحقة في مثل هذه الأيام أيضاً، سواء مذبحة ستاد بور سعيد أم أحداث متكررة لمحمد محمود وغيرها. لكن يظل هذا الإحياء شكلاً من أشكال المناسبات الخاصة التي تقتصر على الراغبين في تذكرها. تذكر من نوع آخر يظهر في محافل شبابية أخرى عادت أدراجها إلى تفاصيل حياتها منزوعة السياسة، لكنه تذكر يفند الشخصيات ويحلل الأحداث المرتبطة بها. على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب المقام حالياً، وفي جلسات مسائية في المقاهي بأنواعها، وفي دردشات عنكبوتية هادئة بحكم تناغم أصحابها وتطابق توجهاتهم التي نأت بنفسها عن الانغماس في النشاط السياسي يتم تداول أسماء غابت عن الساحة العلنية وانطفأت من حولها الأضواء الثورية بعد ما كانت ملء هذه وفي سدة تلك. السياسي والبرلماني السابق والمرشح الرئاسي مرتين وأحد أيقونات الثورة حمدين صباحي يحتاج إلى بحث وتنقيب على الإنترنت لمعرفة أخباره. «حمدين صباحي ونجوم الفن في عزاء الشاعر سيد حجاب»، «حمدين صباحي يصل الى مقر حزب الكرامة لحضور مؤتمر تيران وصنافير»، «حمدين صباحي: يجب محاكمة الموقعين على تيران وصنافير». نتيجة البحث كفيلة بتساؤلات شبابية حول سر اختفاء صباحي – الذي شكلت الشريحة الشبابية نسبة كبيرة جداً من الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات. وعلى رغم تلويحات البعض بأن صباحي ربما لديه تعليمات غير رسمية أو مباشرة بتجنب الظهور أو التوقف عن العمل السياسي أو الانخراط مع الشباب، إلا أن التوجه العام يميل إلى افتراض قاعدة مخالفة تماماً، ألا وهي انتهاء علاقة المرشح بالسياسة والعمل العام أمام الخسارة. خسارة أخرى يصفها حاتم الحناوي (22 سنة طالب جامعي) بالفادحة، وهي التوجه الذي اختاره المرشح الرئاسي السابق أيضاً والسياسي الخارج من عباءة جماعة الإخوان المسلمين ورئيس حزب «مصر القوية» الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح. ويقول الحناوي: «كنت من أشد الداعمين للدكتور أبو الفتوح وحزبه بعد «ثورة يناير». فقد مثل لي التوجه الوسطي والمنزه عن المتاجرة بالدين والمسترشد بالقيم الثورية. وعلى رغم أنني لا ألقى بالاً إلى جهود تشويه الشخصيات التي تمارسها قطاعات عديدة في الإعلام المصري الحالي، إلا أنه سقط كرمز ثوري بالنسبة الي. ويكفي اقتصار ظهوره على منافذ إعلامية بعينها تحت إمرة الجماعة». جماعة من نوع آخر يسمونها في مصر «جماعة البرادعي» تجد نفسها هذه الأيام تجت مجهر التحليل والتفسير، لا سيما في ضوء أوضاع «حزب الدستور» الذي أسسه الدكتور محمد البرادعي الملقب بـ «أيقونة الثورة» حيناً أو «الأب الروحي للثورة المصرية» و «إلهام الشباب» حيناً آخر. البرادعي الذي لم يغب يوماً عن الإعلام، سواء بحضوره التغريدي أم بدوره السياسي أم بتنظيره الثوري أم حتى بالتسريبات التي تبث له بين الحين والآخر هو أبرز الشخصيات التي يجري التداول في شأنها هذه الآونة. منى عبد الكريم (26 سنة) تقول بنبرة يختلط فيها الأسى بالمحبة، والحزن بالمودة: «في 2010 وأوائل 2011 كنت في الـ 20 من عمري. وقتها كنت أنظر إلى الدكتور البرادعي باعتباره النموذج الوحيد الذي يحتذى في مصر. أفكاره وكلماته ونظرياته وتوجهاته ونقاؤه الفكري وهدوؤه ملأت وجداني. وبالطبع لا أنكر إنني صدمت حين ترك مصر بهذا الشكل المباغت، بعد ما قبل الدخول في دوائر السلطة بعد 30 يونيو. كما إنني لم أحب اكتفاءه بالظهور عبر تويتر بين الحين والآخر بتغريدات اعتبرت الكثير منها مسيئاً له ولمحبيه». وتضيف: «لكنه ما زال يمثل لي رمزاً من رموز الثورة». ولأن الرمزية وحدها لا تكفي، والثورة وحدها لا تبني، فإن جانباً من المراجعات الشبابية الدائرة رحاها هذه الأيام يشمل ما آل إليه «حزب الدستور». فبعد أشهر طويلة من الموت الإكلينيكي أعقبت استقالة رئيسة الحزب الدكتورة هالة شكر الله في عام 2015، تم الإعلان عن فوز الصحافي والناشط السياسي خالد داود برئاسة الحزب قبل أيام، وهو ما فجر خلافات داخلية بعد ما أعلن عدد من كوادر الحزب رفض النتيجة. النتيجة التي أحرزها المحامي والناشط والمرشح الرئاسي في عام 2012 خالد علي حين حصل على 134 ألفاً و65 صوتاً كانت مثار سخرية وتهكم من قبل كثيرين. لكنها ظلت مثار احترام ومثال نزاهة بين قاعدة محبيه وغالبيتهم المطلقة من الشباب. والسبب ليس في النتيجة التي يقولون إنه أحرزها من دون إنفاق ضخم على حملات اننتخابية أو وقوف حزب قوي أو جماعة عتيدة وراءه، لكنه في استمرار ظهوره ونشاطه السياسي والحقوقي حتى بعد خسارته. فمن متابعة مستمرة لملف الأموال المهربة إلى الخارج إلى مجزرة ستاد بور سعيـد إلى قضية تيران وصنافيـر يـبـقى علي حـاضـراً قائماً محترماً لدى كثيرين من الشباب، بلا تحميل ثــوري مبـالغ فيـه، أو قـنـاعة بـقدرته على إدارة حمل البلاد المهول.