غادر ليبيا ولم يجد من يودعه أو يشكره بروتوكولياً على مهمته رئيساً لبعثة الامم المتحدة هناك بعد الثورة التي أطاحت حكم القذافي، فالليبيون كانوا منشغلين في تصفية ضغائن واحقاد متوارثة، وجدوا متنفساً لها بزوال سيف معمر عن رقابهم. خسرت ليبيا طارق متري، كما خسرت قبله المناضل التاريخي محمد المقريف الذي استقال من رئاسة المؤتمر الوطني العام، المنصب الأعلى في البلاد، ترقباً لقانون العزل الذي كان سيطاوله بعدما عمل بضع سنوات سفيراً لبلاده قبل ان ينشق عن النظام لقيادة أبرز جبهات المعارضة في الخارج طيلة عقود. لم يكن ذلك قمة الاحترام للنفس فحسب، بل ايضاً نتيجة تساقط السهام عليه من جانب أطراف الصراع كافة التي لا ترغب في شخصيات قيادية توحّد الليبيين. لذا لم يكن غريباً ان يذكر متري في محاضرته في الجامعة الاميركية في بيروت، محمد المقريف، بالثناء، وبعض المرارة المختلطة بشيء من السخرية من الأقدار التي تجعل تلك البلاد عصيّة على المخلصين من ابنائها والاصدقاء، وتحولها الى «صحراء حقد وجحود»، كما وصفها منذ سنوات المعارض التاريخي الآخر، فاضل المسعودي، «الليبي الذي لم يحكمه القذافي يوماً»، كونه اختار المنفى في اول ايام الانقلاب ولا يزال في منفاه مهمشاً لا يطرق بابه أحد ولو لاستطلاع رأيه عما يجري بعد الثورة، هو الذي قضى جلّ عمره في محاولات توحيد المعارضة. انتابني شعور بالحسرة على «بلد الفرص الضائعة»، خلال محاضرة متري مساء الاربعاء الماضي، والتي استعرض خلالها ملابسات التعثر في الانتقال من الثورة الى بناء الدولة، لكنني أحسست انه تمكن خلال فترة عمله هناك، من «فك شيفرة» التناقضات في شخصية الليبيين الذين يطالبونه بأن يلعب دور «سلفه» ادريان بلت (الذي كتب دستور ليبيا وأرسى لبنة متواضعة لمؤسسات الدولة في مطلع الخمسينات من القرن الماضي)، لكنهم يستهجنون في الوقت ذاته أي نصيحة تقدمها لهم الامم المتحدة، باعتبارها تدخلاً في شؤون سيادية داخلية! لا يقرّ الأكاديمي والوزير اللبناني السابق، التوصيفات المتداولة للصراع على انه قبائلي او مناطقي، تماماً كما يرى مبالغة في تقدير حجم «الاخوان» في ليبيا، وهو ذكرني في هذه النقطة، بما قاله لي خلال احدى الندوات حول «الربيع العربي» الديبلوماسي المالطي جورج صليبا الذي كان سفيراً لبلده لدى ليبيا على مدى عقدين، لم يلاحظ خلالهما نمواً للاسلام السياسي، الا في السنوات الاخيرة للقذافي الذي تحالف مع هذا التيار لضمان توريث آمن لنجله سيف. وصليبا الذي يشغل اليوم منصباً في الاتحاد الاوروبي في مدريد، مالطي اباً عن جد، رغم ان اسمه يوحي بأصول لبنانية، كما أدهشني اتقانه اللهجة الليبية، الى ان أيقنت انها تشكل نصف اللغة المستخدمة في مالطا. والحديث عن الاسلام السياسي يعيدني ايضاً الى ما ذكره لي أخيراً القيادي المصراتي عبدالرحمن السويحلي، حفيد المناضلين ومن اوائل المعتقلين لدى قيام الانتفاضة على القذافي. قال السويحلي الذي يواجه اليوم بعزيمة فريدة سهاماً من على يمينه ويساره: «لا تهمني صيغة الدولة، سواء اسلامية ام علمانية ام فيديرالية، فليختاروا ما يشاؤون، ما يهمني هو عدم عودة ممارسات القذافي ورموزه ونهجه». لقد فهم متري ان التطرف ونزعة القتل ليسا من سمات الشخصية الليبية المعقدة والمركبة، بل نتيجة لصراع اقليمي لم يبلغ مداه بعد، ويترافق مع تقاعس غربي مريب.